الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمي يكتب : لي لي ومتلازمة ستوكهولم

صدى البلد

متلازمة ستوكهولم هي ظاهرة نفسيّة تصيب الإنسان عندما يتعاطف مع شخص مخطئ  رغم إدانته ، تصل لدرجة الدفاع عنه والتضامن معه، فيظهر على المصاب  بعض علامات الحيرة والتردد فى الإدانة . وترجع التسميه نسبةً إلى حادثة حدثت في ستوكهولم في السويد حيث سطا مجموعة من اللصوص على بنك (كريديت بانكين) هناك في عام 1973، و احتجزوا بعضًا من مُوظّفي البنك رهائن لمدة ستة أيام ،  وخلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفيًّا مع الجُناة، وقاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم .


ظَهرَ عَلىّ عَرَض المتلازمة و شعرت بمشاعر إيجابية غير منطقية  تجاه بطل قصة  ( أكان لابد يا " لى لى " أن تضيئي النور ) الشيخ عبد العال إمام ومؤذن مسجد الشبوكشى في حي  الباطنية ، واكتفيت بثمرة العبرة  وثواب المقاومة، فرغم سقوطه  والانتكاسة التي تعرض لها بحثت عن مبررات كثيرة حتى أُصبت بالتعاطف معه .


بذل الشيخ عبدالعال مجهودا مضنيا حتى يعيد السكارى والمدمنين ليريهم قدرة الله ماثلة أمامهم بجناته وجحيمه ، بوعده ووعيده ، عاملهم كالتلاميذ الذين يعودون إلى المدرسة من تلقاء أنفسهم بعد طول " بلطجة وتزويغ " وضع أمامهم الرهبة و عقوبة الذنب وأن الإقدام علي الخطأ مسألة لا يمكن أن يتحملها التائب حديث التوبة أو حتى يفكر فيها . فكان زبائنه يؤدون الصلاة أنصاف مساطيل ، أنصاف يقظى ، ينسى الواحد منهم أنه قرأ الفاتحة فيقرأها ثانية ، أو يتذكر فى منتصف الصلاة أنه لم ينوها فيعيدها. عانى في البداية وكان يمشى بين الناس ناصحًا وواعظًا واعتبروه "خميرة عكننة " ، كان مبررهم أن الحساب تراكمى فى الآخرة والله يميز القلوب عن الأعمال وهو الغفور الرحيم ، ولكنه كان يرى أن في أعماقهم يسكن الإيمان  ولكنها الحياة  ، فحياتهم لا تتحمل الطاعة الكاملة . فالصلاة "ركعتين" جمعة كل أسبوع ، النهار صيام رمضان والمنكرات من المغرب إلى السحور ، حتى فتح لهم طريق التوبة بصوته العذب ، كان يقرأ لهم القرآن في الساحات والمقاهي وأعجبهم صوته ودخل قلوبهم ، ولم يعد يريدون منه إلا الصوت والتلاوة.


رفضوا فيه  الواعظ والمبشر والإمام ولم يعد أمامه إلا الصوت ليجذبهم لما يريد ، فقد تكون الآية هي باب التوبة . السميعة من الرجال بجواره وأمامه ، والنساء خلفهم مصفوفات بعشوائية وهن الأكثر عددًا ، حتى أشيع الخبر فى الحى وأصبح الأمر كالفقرة المفتوحة  ، ومن صدورهن تتصاعد مع وقفاته الآهات... ثم بدأت المتاعب فمع خطواته إلى المسجد يجد سيدات منتظرات، ولابد من سؤال أو حجة سؤال  وكان يجاوبهن وعينه لا تنظر إليهن  .. حتى استوقفته " ليلى " أو " لى لى " كما نادتها جدتها ، بسؤال زلزل كيانه عن تقصير زوجها معها  ، ثم تقذف سهامها إلى عينه وبصوت منخفض تقول  " حلمت بيك يا مولانا " وأنى أريد التوبة على يديك ، فهل لها توبة ؟ . كانت شديدة الجمال نصفها إنجليزى والنصف الاخر مصرى ، بشعرها الأحمر الطويل الكثيف وعيونها العسلية المصرية ، تمسك بيده أمساكه لا توبة فيها ولا رادع وكأنها لسعة سيخ حديد قادم لتوه من جهنم .... " لى لى " أشعلت  له نور المعصيه فى قلبه وطلبت منه أن يعلمها الصلاة ويعطيها درسًا خصوصيا ، استنكر مولانا الطلب ورد : روحى الله يغفرلك ويسهلك .


طاردته كالشيطان ، وزعزعت طموحه في الطاعة ، بعد أن كان يريد هزيمة الشيطان فى الناس بات يجرى من أمامها خوفًا من أن يهزمهُ الشيطان فى نفسه ، حاول أن يمحوها من ذاكرته كأنها لم تكن ، حاول أن يطفئ نور نافذتها فى عقله ، حاول أن يلغي الحجرة والشارع والحي  والبيت ولكنه كُبل بالعجز ، فإيمانه يصارع" لى لى "  وجهًا لوجهه ، بعد أن أشعلت فيه نارًا لا تستطيع برودة الدنيا أن تطفئها ، نسى الأذان والتسبيح فى القيام والقعود ،  أطال سجوده وصحن الجامع ممتلئ بالتائبين  وهم فى انتظار تكبيرة مولانا ، ومولانا يتركهم ساجدين و فى لمح البصر يدق باب غرفتها فى البيت المقابل له ، ولما فتحت قال لها : جئت لأعلمك الصلاة .


كانت ترتدي ملاءة سرير وانزلقت عنها ، فضمتها بقوة وهى تستدير و توليه ظهرها قائلة : اشتريت الاسطوانة الانجليزى اللى بتعلم الصلاة ولقيتنى أفهمها أكثر . متأسفة .


وأطفأت النور .... وأغلقت الباب


رد قائلا فى حسرة : أكان لابد يا " لي لى " أن تضيئى النور .....!


هذا التشريح البديع للحظات الضعف الانسانى قد أصابني بالحيرة فى الحكم على مولانا ، ظللت أفكر حتى أيقنت أن عرض الخطأ شيء والتعمق فيه شيء آخر ، وجود الشر شيء وتشريحة بكل دقة أمر مختلف تمامًا عما يصدر منا من أحكام بالتعاطف أو الإدانة ...قد نكون تعودنا أن ينتصر الخير على الشر ويفوز الصالح بالحسناء ثم علمنا أن الواقع غالبًا لا يسير كما تعلمنا .


فالقصة خيالية الأصل وواقعية المغزى وهى أحد روائع فيلسوف القصة القصيرة يوسف إدريس وقد حوُلت القصة إلى فيلم وعرضت على الشاشة الصغيرة ، ولكن بين سطور القصة تفوح رائحة الكلام و كأن لكل كلمة رائحة و مذاق مختلف عن الأخرى ،  بتجسيد بارع ومحترف دون الخروج عن المألوف و تفادى المناطق المحرمة فى عقولنا رغم تشابك المواقف وتعقيدها البالغ.