الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد مبروك الشيلاني يكتب: تحويلُ القبلة أسرارٌ وحِكَم

صدى البلد

لقد عظَّم الشرع الشريف أمر القبلة؛ فأوجب استقبالها عند كل صلاة، وجعل هذا شرطًا لصحتها، كما استَحبَّ استقبالها عند الدعاء، ونهَى عن البُصاق ناحيتها، وحرَّم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة، ففي الحديث: (إذَا أتَيْتُمُ الغَائِطَ فلا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، ولَا تَسْتَدْبِرُوهَا) "راوه البخاري"، فتعظيم القبلة فرض على الأحياء، وواجب نحو الأموات فإليها تكون صلاة الجنازة وفي اتجاهها يُدفن الميت.

ولنا أن نتخيل الصلاة بدون قبلة؛ لندرك أهميتها، فبدونها يختل نظام الصلاة وتتعدد الاتجاهات فيها، ويُعجب كل مصلٍ بما اختاره لنفسه، مما قد يدفعه إلى الإنكار على من خالفوه؛ فتتحول المساجد إلى ساحات للجدال، وتصير الفوضى عنوانًا لدور العبادة!

وفي هذه الأيام المباركة تحلُّ علينا ذكرى عطرة هي (تحويل القبلة)، فبعد أن اتجه المسلمون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى ثلاثة أعوام -بعضها قبل الهجرة وبعضها في المدينة- صدر الأمر الإلهي بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، وهي أمنية تاقت إليها نفس النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى صار يُقلِّب وجهه في السماء –مكان نزول الوحي- منتظرًا تحقيق أمنيته بعد أن اشتد حنينه إلى مكة المكرمة، فاستجاب الله لحبيبه (صلى الله عليه وسلم) وأنزل الوحي موافقًا لمـراده (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) "البقرة: 144".

لقد حان وقت تحويل القبلة بعد أن آتت الأهداف من الصلاة تجاه بيت القدس ثمارها المرجوة؛ فإمامة النبيِ (صلى الله عليه وسلم) الأنبياءَ (عليهم السلام) ليلة الإسراء كانت لإعلان أيلولة بيت المقدس إلى الأمة الإسلامية، ووراثتها للرسالات السماوية السابقة. وصلاة الصحابة (رضي الله عنهم) تجاه المسجد الأقصى قد علقت قلوبهم به، ولفتت أنظارهم إليه، وجعلتهم في تشوق إلى الصلاة فيه، وحثتهم على التفكير في شئونه، والسعي إلى تحريره من الاحتلال الرومي؛ مما جعل الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يُعلِنها بجلاء: (ما القدس عند الله  إلا كمكة)، ويُرسِل جيشه لفتح مدينة القدس، ويذهب لتسلم مفاتيحها بنفسه بعد سنوات قليلة من تحويل القبلة، ويفتحها بدون قتال كما فتحت مكة.

وحينما نبحث عن ما وراء حادثة تحويل القبلة من حكم سامية وأسرار كامنة، فسندرك أنَّ الله (جل وعلا) أراد أن يجمع لنبيه (صلى الله عليه وسلم)  بين قبلة بني إسرائيل وقبلة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)؛ للتأكيد على عالمية الإسلام ووسطيته الجامعة وهيمنته على الرسالات السابقة. فلو كانت قبلة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة فحسْب لقيل: إنَّه وَرِث قبلة جده إسماعيل (عليه السلام)، وإنَّ رسالته للعرب دون غيرهم. ولمَّا فُرِضَت الصلاة قَبْل الهجرة كانت القبلة إلى الأقصى؛ فتميز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يتجهون للكعبة، بينما استقبل المسلمون الكعبة لما تحولت القبلة وهم في المدينة، فانفردوا عن اليهود الذين كانوا يصلون لبيت المقدس. وإذا كان لكل أمة وجهتها الخاصة بها، فقد كان تحويل القبلة لتحقيق نوع من الاستقلالية للمسلمين؛ فاليهود يتوجهون إلى بيت المقدس، والمسيحيون يستقبلون المشرق، أما المسلمون فإنهم اتجهوا للكعبة التي امتازوا بها، وأصبحت رمزًا لهم دون غيرهم، فلا يشاركهم فيها أحد ولا يشتركون فيها مع أحد.

لقد شرف الله الأمة الإسلامية بالصلاة إلى القبلتين، وكرمها بإرث المسجدين، فجمع لها بين قبلتي الفرع والأصل –يعقوب وإبراهيم (عليهما السلام)-، وهذا شرف لم تنله أمة سابقة. فقد صلى المسلمون في مكة إلى القبلتين، فكانوا يستقبلون القدس والكعبةُ بينهم وبينها، وفي المدينة كانوا يستقبلون القدس فحسب، فلما حُولَت القبلة صاروا يستقبلون الكعبة وحدها، فحازوا كرامة كبرى تمثلت في الجمع والإفراد للقبلتين.

ولمكة خصائص انفردت بها عن القدس وسائر البلدان، ففيها التقى آدم وحواء (عليهما السلام)، وهي أحب البلاد إلى الله (عز وجل)، وأم القرى، وموطن الكعبة، ومهد الدعوة، ومنبع الرسالة، ومنشأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وأول مهبط الوحي، وبها زمزم وعرفات، ومنها الخلفاء الراشدون، والمسلمون الأولون، فاستحقت مكة بهذه الخصائص المذكورة وتلك الحِكم السابقة أن تكون إليها القبلة دون غيرها. 

لقد كان تحويل القبلة نقطة فارقة في تاريخ المسلمين، تحققت لهم بها بعض الخصوصية الإيمانية والاستقلالية الحضارية، وتحول بتحويلها أهل النفاق، وظهر عداء اليهود والمشركين فانكشفت أمام المسلمين حقيقة الجميع. كما كان تحويل القبلة توريثًا عمليًا للحنيفية الإبراهيمية، فتفتقت أذهان الصحابة إلى ضرورة تحرير قبلتهم من قبضة الوثنية، فكان تحويل القبلة تمهيدًا لتحريرها في فتح مكة، وكان تحريرها إعلانًا للزعامة الروحية والقيادة الفعلية للعرب، وكانت تلك الزعامة الحقة والقيادة المستحقة سببًا في توحيد الصف العربي؛ مما أسهم في نشر الإسلام ووصول نوره إلى العالمين.

حفظ الله الحرمين، وحرر أولى القبلتين، وكل عام والمسلمون بخير.