الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سُليمان عبدالغفار يكتب: لِقاء الشَرْقِ والغَرْبْ بَيْن «جوتَه» الألْماني و«كِبْلِنْج» الإنْجليزي (1-2)

صدى البلد

إذا كان الشاعِر الإنْجليزي "روديارد كِبْلِنْج" شاعِر الحقْبة الاسْتِعْماريَّة التي امْتَدَّتْ مِنْ أواخِرِ القَرْنِ الثامِن عَشر إلى ما بَعْد مُنْتَصَفِ القَرْنِ العِشْرين – قامَ بِالتَبْشير بِالاسْتِعْمارِ ومُرَوِّجًا لِرِسالَةِ الرَجُلِ الأبْيَض في ظِلِّ الإمْبراطورية البريطانيَّة التي لَمْ تَكُنْ الشَمْس تَغْرُب عَنِ الأراضي التي تَحْتَلَّها مِنَ الهِنْد وصولًا إلى مصر والخَليجِ العَرَبي وشَرْق وجَنوب القارَّة الإفْريقيَّة – ومِنْ آسيا واسْتراليا وصولًا إلى القارَّة الأمْريكيَّة...!؟!... وبَيْنَما كانَتْ رائِحة العُنْصُرية وتَفَوُّق الأوروبِّيين تَفوحُ مِنْ قَصيدَته "عِبْء الرَجُل الأبيض" فإنَّهُ ذَهَبَ في قَصيدَتِهِ الأشْهَر بِعنوان "الشَرْق والغَرْب" إلى القَوْل بِأنَّ "...الشَرْقُ شَرْق ...والغَرْبُ غَرْب – هَيْهات أنْ يَلْتَقيانْ ...!؟!"
“… The Ballad of East and West… oh, East is East, and West is West, and never the twain shall meet…!?!” 

فإنَّ أديب ألْمانيا الكَبير وشاعِرها العَظيم "جوهان ولفنج جوته" الذي جاءَ إلى الدُنْيا قَبْل مُوْلِد كِبْلِنْج بِأكْثَر مِنْ مائة عام – يَتَعانَقُ في أدَبِهِ وفِكْرِهِ "الشَرْق والغَرْب" عِناقًا نادِرَ المِثال – مؤكِّدًا بِروحِهِ السَمْحة أنَّ "الغَرْبَ والشَرْقَ" يَلْتَقيانِ ولا يَفْتَرِقانْ ...!؟! – فَقَدْ عاصَرَ "كِبْلِنْج" حقْبة الإمْبرياليَّة الأوروبيَّة – فَكانَ أحَد المُبَشِّرين بِضَرورةِ هَيْمَنة الدوَل الأوروبيَّة على البِلادِ الشَرْقيَّة لاسيَّما بلدان العالَمِ الإسْلامي في آسيا وأفْريقيا...!؟! – بَيْنَما عايَشَ "جوته" سَنَوات "الثَوْرة الفرنْسيَّة" وإعْلانِها شِعارات "الحُرِّية والإخاء والمُساواة" – رَغْمَ ما تَبِعَها مِنْ حُروب وقَلاقِل غَرِقَتْ في أَتونِها الدول الأوروبيَّة – لاسيَّما الحَرْب بَيْن فَرَنْسا وألْمانيا...!؟! – فَكانَ كُل أديب نِتاجَ عَصْرِهِ وبيئَتِهِ – فشَتَّان بَيْن "جوته" المُنْصِف النَزيه في نَظْرَتِهِ إلى الشَرْقْ...!؟! – وبَيْنَ "كِبْلِنْج" العُنْصُري المُتَزَمِّت في رؤيَتِهِ لِلغَرْب...!؟!.

وإذا كانَ لِلغَرْب مِنْ "رِسالة حَضاريَّة" يَدَّعي القيام بِها تِجاه البلدان التي هَيْمَنَ عَلَيْها وَاحْتَلَّ أراضيها – فإنَّ اهْتمامه الحَقيقي يَنْصَبُّ بِالدَرَجةِ الأولى على تَحْقيقِ مَصالحه السياسية والاقْتِصاديَّة المُباشِرة – رَغْمَ الحَديث الزائِف عَنْ تِلْك الرِسالة التي أسْماها "عِبْء الرَجُلِ الأبيض" الذي يتحمله تِجاه المُسْتَعْمَرات – لأن حَضارَتَهُ لا تَجْلبُ إليْها سوى قُشور حَضاريَّة لا قيمَة لَها...!؟! – فالهَدَف الذي يَكْمُن مِنْ وَراء تبْشيرهُ بِقيَمِهِ وثَقافَتِهِ يَتَمَثَّل في سَعْيِهِ الدؤوب إلى تَشْويه التُراث الثَقافي لِلشُعوبِ التي يَسْتَعمرها، وهَدْم كيانِها الحَضاري الموَحَّد عَبْرَ بَث الفُرْقة في أنْحائِها، وعَمَل كُل ما يؤدِّي إلى تَجْزِئَتِها وتَفْكيكِها – تِلْك هي سياسته الميكياڤيللية التي قامَ بِاتِّباعِها عَبْر تاريخه الاسْتِعْماري – وفي مراحِلِهِ المتنوِّعة التي جَلَبَتْ لِلبَشَريَّةِ أشَد الأضْرار ودَفَعَتِ الإنْسانيَّة في مُقابِلها ثَمَنًا فادِحًا مِنْ دِمائِها ومُقَدَّراتِها – فَسياسة "النَهْب العالَمي" التي مارَسَها "الغَرْب الإسْتِعْماري" أطلق عليْها مُسَمَّى "الاسْتِعْمار" بِكُلِّ ما حملَهُ مِنْ تَخْريبٍ ودَمار...!؟! – وعَمَليَّات "الإبادة الجَماعيَّة" ضِد السُكَّان الأصْليين بِالمُسْتَعْمراتِ سَمَّاها "تَطْهير عِرْقي" وقَدْ ألْحقَتْ بِالإنْسانِ والبيئة أشد الأضْرار...!؟! – وها هي آخر تَجَلِّيات الغَرْب وحَضارته التي أطْلَق عَلَيْها "العَوْلَمة" ويَضْطَلِعُ فيها بِدَوْرِ المُهَيْمِن – جاءَتْ بِوَباءِ "كورونا" الذي يَعْصِفُ بِالحياةِ في كُلِّ مَكانْ – بَلْ إنَّ الدوَل الغَرْبيَّة ذاتها باتَتْ تَدْفَع في مواجَهَتِهِ أفْدَح الأثْمان مِنْ الأرواحِ والأمْوال...!؟!.

كانَ الأديب الألْماني "جوته" أديبًا نادِرَ المِثال في نزوعِهِ إلى اسْتيعاب الإنسانيَّة كُلَّها في حياتِهِ المُمْتَدَّة – لِتَجْتَمِعَ في شَخْصيَّتِهِ المُتألِّقة "حَقيقة العالِم وحِكْمة المُفَكِّرْ وبَراعةِ الأديب وتأمُّلِ الفَيْلَسوف – فَضْلًا عَنْ خيالِ الشاعِر" – جَمَعَ كُل هذِهِ الصِفات في كِتاباتِهِ  المتنوِّعة بَيْن العِلْم والفِكْر والفَلْسَفة والأدَب والشِعْر – ولَمْ يَكُنْ في فِكْرِهِ وأدَبِهِ وشِعْرِهِ بِالمواطِنِ الألْماني أو الأوروبِّي – إنَّما تَعَدَّى ذَلِكَ الفَضاء الضَيِّق ليُصْبِحَ نَموذَجًا لِلأديبِ العالَمي الذي تَمْتَزِج في فِكْرِهِ وحياتِهِ آداب الشَرْقِ والغَرْب...!؟! – وعَلى العَكْس مِنْ "كِبْلِنْج" الذي تَبَنَّى القَطيعة بَيْنَهُما ودَعا إليْها – ويَبْدو أنَّهُ لَمْ يَقْرأْ ما كَتَبَهُ "جوته" قَبْل وِلادَتِهِ بَقَرْنٍ مِنَ الزَمان – فَقَدْ كان مولده بِمَدينةِ بومباي الهِنْديَّة في ظِلِّ سَطْوَةِ الإحْتِلالِ البريطاني لِلْهِنْد – بَيْنَما كانَتْ وِلادة "جوته" في مَدينةِ فرانكفورت الألمانية – يَقول "جوته" في إحْدَى قَصائده التي تُصَوِّر رؤيته لِهَذيْنِ العالَمَيْن:

"... ليْسَ هُناكَ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ الغَرْبِ والشَرْقْ ...!؟!
... فَمَنْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ ويَعْرِفُ الغَيْرْ...
... لابُدَّ وأنْ يُدْرِكَ أنَّ الشَرْقَ والغَرْب لا يُمْكِنْ أنْ يَنْفَصِلا بَعْد اليَوْمْ ...!؟!
... كَمْ أتَمَنَّى أنْ أتأَرْجَحَ سَعيدًا بَيْنَهُما ...!؟!
... فَعَسَى أنْ يَأْتيَ ذَلِكَ بِالخَيْرْ...!؟!...".

عاشَ شاعِرُنا الكَبير حياة اتَّسَمَتْ بِالتَنَوُّعِ والتَكامُل في ذاتِ الوَقْت، بِما مَكَّنَهُ مِنْ تَحْقيقِ وجودهُ المادِّي والفِكْري دونَ تَعارُض بَيْنَ هذا أو ذاكْ – فَلَمْ تُعَكِّر صَفْوَهُ تِلْكَ الاضْطِرابات التي وُجِدَتْ من حولِهِ – كانَتْ الحُروب والقلاقِل التي صاحَبَتْ انْدِلاع "الثَوْرة الفرنْسية" وقَلَبَتْ الأوْضاع في أوروبا رأْسًا على عَقَبْ، وما أسْفَرَتْ عَنْهُ مِنْ تَحَوُّلات في النُظُمِ والأفْكار...!؟! – كُل هَذِهِ التَطَوُّرات شَهِدَها وتأثَّرَ بِها وشارَكَ في بَعْضِها، لَكِنَّها لَمْ تؤثِّرْ على حالَةِ التَوازُنِ التي مَيَّزَتْ نَهْج حياتِهْ – بَلْ إنَّ تِلْك الأحْداث تَحَوَّلَتْ إلى مَصْدَر إلْهام لَهُ لتَحْقيقِ ذاتِهْ، ومَجالًا لِإظْهارِ عَبْقَريَّتِهِ وحَميد صِفاتِهْ...!؟! – ومَعْ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ حياته خالية مِنَ المُنَغِّصات – فَقَدْ عانَى آلام المَرَض وواجَه الكَثير مِنَ الصُعوبات، مِثْلَما عَرَفَ خَيْبة الأمَلْ، ووَقَع في بَعْضِ الأحْيانِ فَريسَةً لِلْحُزْن – لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اليأس أبَدًا لأنَّهُ رأى في تِلْكَ الأحْوال أنَّها تَجارِب لِإذْكاءِ العَقْلِ وإثْراءِ القَلْب – فَكانَتْ على مَشَقَّتِها تؤدِّي بِهِ في نِهايَةِ المَطافِ إلى رَهافَةِ الحِسِّ والشُعورِ في مُعايَشَةِ تَقَلُّباتِ الحياة ...!؟!... ويَكْفي أنَّهُ تَمَكَّنَ بِمؤلفه "الديوان الشرقي لِلمؤلِّفِ الغَرْبي" أنْ يُقيمَ جُسورًا مِنْ الأُلْفَةِ والتَفاهُمِ بَيْنَ الشَرْق والغَرْب، لِإلْغاءِ الفوارِقِ بَيْن بَني الإنْسان في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانْ ...!؟!.

في ظِلِّ هذا الوَضْع المُضْطَرِب غادَرَ "جوته" بَلدَته "ويمار" التي تَقَع في الغَرْب بِالقُرْبِ مِنَ الحدودِ الفرنْسيَّة حَيْثُ الحُروب والمُناوَشات لا تَهْدأ بَيْن فَرَنْسا وألْمانيا متوَجِّهًا إلى "بوهيميا" في الجَنوب – حَيْثُ عَكَفَ على قِراءَةِ كُتُبِ الرَحَلاتِ إلى بِلادِ الشَرْق، ومُطالَعة "الشِعْر الشَرْقي" لاسيَّما شَعْر "حافِظ الشيرازي"... وطابَتْ لِشاعِرِ الغَرْبِ الكَبير هجرتَهُ الروحية العُظْمَى إلى عالَمِ الشَرْقِ بِكُلِّ ما فيهِ مِنْ غُموضٍ ورَوْعَةٍ وجَمالْ – وها هو يَـتَغَنَّى بِنَشيدِ "الهِجْرة" الذي يَقولُ فيهِ:

"... الشَمالُ والغَرْبُ والجَنوبْ ... أقْطارُها تَتَناثَرُ بَدَدًا...!؟!...
... وعُروشِها ومَمالِكُها تَنْهارُ...!؟! فَهاجِر إلى الشَرْقِ الطهورْ...!؟!.
... لتسْتَروحَ عِطْرَ الآباءِ الأوائِلِ الطيِّيبينْ ...!؟! هُنَاكَ في ظِلِّ النَقاءِ والصِدْقْ...!؟!
... يطيبُ ليَ الرُجوعْ ... إلى نَشْأةِ الإنْسانيَّةِ الأولى ...!؟!...
... إلى الأَزْمانِ التي تَلَقَّى فيها بنو الإنْسانِ كلمَةَ الحَقْ ...!؟!...
... أنْزَلَها اللهُ مِنَ السَماءِ إلى أَهْلِ الأرْضْ ...!؟!...".

... وهَكَذا يَنْصَرِفُ شاعِر ألْمانيا الكَبير بِكُلِّ كيانِهِ إلى دُنْيا الشَرْقِ الساحِرِ وقَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ فؤادَهُ وخيالَهُ – وها هو يُحَدِّثُ نَفْسه في خاتِمة ديوانِهِ – عَنْ جَنَّةِ النَعيمْ – بِقَوْلِهِ:
"... هُناكَ في تِلْكَ الجَنَّةِ الوارفة ...!؟!
... وإلى جوارِ أشْجارِ الخُلْدِ الباسِقة ...!؟!
... تَمْتَدُّ جَنْبًا إلى جَنْبِ أشْجارِ المَعْرِفة ...!؟!
... فَتُلْقي بِظِلالِها على مَفارِشِ العُشْبِ الموشاة بِمَنابِتِ الزُهورْ...!؟!
... وعلى أجْنِحَةِ النَسيمِ تُقْبِلُ أسْرابًا مِنَ الحورْ...!؟!
... تميلُ بِكَ إلى خَمائِلٍ بِالكُرومِ مَعْروشَةْ ...!؟!
... وقِبابًا بِزَرابيٍّ مِنَ الياقوتِ مَفْروشَةْ ...!؟!
... يَدْعونَكَ في لُطْفٍ وإيناسٍ – وقَدْ رَشِفْنَ بِطَرْفِ الشِفَّةِ ...!؟!
... رَشْفَةً مِنْ كأْسِ شَرابِ أهْلِ النَعيمْ ...!؟!
... فَأنْتَ هُنا مَرْدودٌ إلى الصِبا والشَبابْ ...!؟!
... وهُنَّ جَميعُهُنَّ أبْكارًا مِنَ الأتْرابْ ...!؟!
... فَلا تَفاضُلَ بَيْنَهُنَّ في رَوْعَةٍ أو بَهاءْ ...!؟!
... وحاشا أنْ تَغْتَرَّ مِنْهُنَّ بِالحُسْنِ حَسْناءْ ...!؟!
... أو تَطْوي إحْداهُنَّ صَفْحَة البَشْرِ وتُظْهِرُ الكَمَدْ ...!؟!
... لطارِئٍ مِنْ غيرَةٍ أوْ لَوْعَةٍ مِنْ حَسَدْ ...!؟!
... بَلْ كُلٌّ تُحَدِّثُكَ عَنْ مَحاسِنِ غَيْرِها – أصْدَقَ الحَديثِ وأعْذَبُهْ ...!؟!
... ولا تَصُدُّكَ إنْ شِئْتَ عَنْ مَجالِسِ الأُخْرَياتْ ...!؟!
... تَرَاهُنَّ يَتَسابَقْنَ على ما فيْهِ تَمام مَسَرَّتِكْ ...!؟!
... فأْنْتَ مِنْ "الحورِ العينْ" في جَمْعٍ عَظيمٍ زاخِرْ ...!؟!
... و صَفْوٍ مِنَ العَيْشِ ناعِمَ البالِ والخاطِرْ...!؟!
... فَنِعْمَ الصَفْو المُقيمْ ... ما دامَتْ جَنَّةُ النَعيمْ ...!؟!..."

... في مَقالِنا التالي – نَتَناولُ "اللِقاء الفَريد" بَيْن "الشَرْقِ والغَرْب" بِالفِكْرِ والشُعورِ العَميق عَبْرَ شَخْصيَّتين رائِعَتَيْن – رَغْمَ تَباعُد الزَمان والمَكان ... ورَغْمَ اخْتِلافِ اللسان – لِقاء شاعِر العِشْق والتَصَوُّف في الفارسيَّة "حافِظ الشيرازي" ونَظيرَهُ "جوته" كَبير شُعَراء الألمانية ...!؟!... وقَدْ أرادَ لَهُما القَدَرُ أنْ يَلْتَقيا – رَغْم اخْتِلافِ الليالي والأيَّامْ ... وما فيها مِنْ أفْراحٍ وآلامْ ... فيالَهُ مِنْ لِقاءْ...!؟!.