الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تزاوج بين نوعين من الإنسان.. نظرية الخروج من أفريقيا

ليس هناك شيء مقدس في العلم، فكل الموضوعات قابلة للبحث والفحص والدرس، وكل شيء قابل للوضع تحت مبضع التشريح، وأهم ما يميز العلم أنه يقبل التخطيء، بل من أهم خصائصه التخطيء، هذا الذي يدفعه دفعا للتقدم والتطور.

ومن أهم الأشياء في العلم أنه قابل للقياس، فأي شيء، وأي موضوع وأية قصة يضعها العلم في المختبر، ويطبق عليها مناهج البحث، ولا يتقيد بنتائج مسبقة، بل ما تؤدي إليه مناهج البحث الصارمة من نتائج هي فقط ما يعترف بها العلم، ونحن هنا نرد على المنتقدين لعنوان مقالنا في الأسبوع الماضي ضمن سلسلة مقالاتنا الأسبوعية لصحيفة صدى البلد والذي جاء نصه: قلت لابنتي: "الباحث الجاد لا يدخل عقيدته معه إلى المعمل".  وهو طبعا عنوان صادم لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإن كان التعبير هو تعبير مجازي غرضه ألا تتأثر نتائج الباحث بشيء غير علمي، حتى لو كان نتيجة لفهم ما لعقيدة هذا الباحث أو ذاك.

إن الدين يقدم تصورا كليا للقضايا، وهذا شيء طبيعي، فلقد جاء الدين ليهدئ من روع الإنسان، ويمنحه الأمل في الوجود من ناحية، وبعد الموت من ناحية أخرى، ولهذا فهو لابد مقدِّم إجابات كلية تريح العقل الإنساني الذي لا يهدأ ولا يتوقف عن طرح المزيد من الأسئلة، هذه الأسئلة المتجددة يحاول الدين أيضا أن يجد لها إجابة تتسق مع تلك الإجابات التي قدمها في السابق، وتتسق كذلك مع ما يتم اكتشافه من خلال البحث العلمي الجاد، هذا الاتساق الذي يحاول السير قدر المستطاع بشكل مضطرد، فالعلم كل يوم يكتشف الجديد، ويقدم المزيد من النظريات التي تتعارض بالكلية مع الإجابات المطلقة التي قدمها الدين سابقا، وهنا يحدث الصدام الذي هو في حاجة إلى توفيق، ذلك الذي لن يحدث إلا من خلال التأويل للإجابات الأولى أو لتلك القصص الديني، والتي كانت تتفق مع تلك المعارف البدائية في العصور التي خلت، ولكنها لا يمكن بحال، حال أخذها بحرفيتها، أن تتفق مع الجديد من الاكتشافات ولا مع الحديث من النظريات.

ومن بين تلك النظريات التي هي في حاجة إلى التوفيق ما بينها وبين الدين، نظرية الخروج من أفريقيا، تلك التي تقول أن البشر في كل بقعة من العالم هم من أصل تلك الهجرة للإنسان الأول من أفريقيا عبر باب المندب، والتي كانت نتيجة لارتفاع في درجة الحرارة نتيجة لبراكين وزلازل أدت إلى ارتفاع درجة حرارة التربة في القارة الأفريقية ذلك الذي دفع الإنسان للهجرة إلى آسيا ومنها إلى أوروبا وأستراليا، وبقية مناطق العالم الجغرافية.

ونظرية الخروج من أفريقيا أو كما تُعرف أيضاً "الأصل الأفريقي للإنسان العاقل" هي نظرية أو افتراض في علم تطور الإنسان، وتقوم على أساس أن أصل الإنسان المُعاصر (المعروف بهومو) يعود إلى قارة أفريقيا، وبالتحديد إلى مناطق الساحل الشرقي الإفريقي أو "القرن الإفريقي" والتي تعرف بأنها أثيوبيا والصومال حالياً.
وعلى الرغم من تعرض هذه النظرية لبعض الانتقادات والمعارضة إلا أنها تظل مدعمة ببعض الشواهد التاريخية والجيولوجية التي تدعمها.

ولقد تجدد الخلاف بين العلماء حول تاريخ هجرات البشر عبر العصور بعد ظهور دراسة أجريت على "أسنان بشرية" عمرها نحو 80 ألف عام عثر عليها في كهف بالصين وخلصت إلى أن الإنسان غادر إفريقيا قبل آلاف الأعوام مما كان يعتقد في السابق.

ولقد خلص باحثون في جامعة لندن كولدج ومعهد علم المتحجرات وتطور الإنسان في بكين، بعد فحص مجموعة من 47 من الأسنان من بين مكتشفات أخري، إلى أن الإنسان الحديث هاجر إلى آسيا قبل استعماره لأوروبا. وقد تم اكتشاف الأسنان في كهف جيري في مقاطعة داوكسيان في إقليم هونان، وقد عثر معها على بقايا ضباع وباندا عملاقة وفصائل حيوانية أخرى، وذلك بحسب ما ذكرته الدراسة العلمية التي توصلت لهذه النتيجة.

وأعلن العلماء في نتائج البحث الذي ورد بدورية نيتشر- عن اكتشاف أسنان يرجع عهدها إلى ما بين 80 ألفا و120 ألف سنة يقولون إنها تقدم أقدم أدلة تتعلق بإنسان العصر الحديث خارج القارة الأفريقية. ذلك حسب ما تم نشره في صحيفة "دوتش فيلا" الألمانية في العام ٢٠١٥.
وربما يرى القارئ الكريم أنه فيما سبق فإننا لسنا في حاجة إلى توفيق بينه وبين الدين، فليس هناك، من الناحية الدينية، ما يمنع أن يكون الإنسان الأول "آدم في القصة الدينية" قد نزل أول ما نزل في أفريقيا، فليس هناك، على الأقل في الإسلام، مكان محدد في الأرض لنزول آدم، ونحن نقول أن هذا الجانب بالفعل ليس في حاجة إلى تأويل، ولكن حينما نمضي في النظرية سنعلم أن هذا الإنسان الذي هاجر من أفريقيا وانتشر في بقية العالم، قد عاصر إنسانا آخر في أوروبا إنسان نياندرتال، هذا الذي هو مثبت علميا بما لا شك فيه، ليس ذلك فحسب، بل لقد حدث تزاوج بين نوعي الإنسان: نياندرتال والإنسان الحالي الإنسان العاقل "هومو سابينس"، هذا التزاوج الذي حدث في القارة الأوروبية.

وتطرح الأبحاث -التي توضح حدوث تزاوج داخلي بين النوع البشري (هومو سابينس) أو الإنسان العاقل وإنسان النياندرتال منذ نحو 100 ألف عام- أدلة مثيرة على أن الإنسان الحديث ارتحل من القارة الأفريقية في وقت أقدم بكثير مما كان يعتقد من قبل، كما أشرنا سابقا.

ويؤكد العلماء إن تحليلا للجينوم أو الطاقم الوراثي الخاص بأنثى من النياندرتال - عثر على حفريات لبقاياها في كهف بجبال أتلاي في جنوب سيبيريا قرب منطقة الحدود بين روسيا ومنغوليا - رصد بقايا من الحمض النووي (دي إن أيه) من الإنسان العاقل ما يبرهن على حدوث التزاوج الداخلي أو زواج الأقارب بين هذا الإنسان وأقرب أولاد عمومته من إنسان النياندرتال.

إن إنسان النياندرتال الأوروبي، كما تذهب نظرية التطور، هو فرع من الشجرة التي ظهر منها الإنسان الحالي. وقد جاء من أفريقيا في وقت مبكر. ومن خصائص هذا الإنسان أنه كان ذا بنية قوية وقصيرة وصيادا ماهرا يتقن إشعال النار وصناعة الرماح، كما كان يقوم بدفن موتاه.

وقبل حوالي 150 ألف سنة، وعندما كان إنسان النياندرتال منتشرا في عموم أوروبا وفي أقسام من آسيا الداخلية، نشأ جنس الإنسان الهومو سابينس لأول مرة من الجد الأقدم لإنسان النياندرتال الذي بقي في أفريقيا، ثم نزح من أفريقيا، كما ذكرنا سابقا، إلى أوروبا مرة ثانية بعد تطوره إلى هومو سابينس قبل نحو 45.000 سنة

وفي دراسة كانت هي الأولى من نوعها بينت أنه قد حدث اختلاط جيني بين النياندرتال والبشر قبل 150 ألف عام.

وقد وصفت دراسة حديثة نشرتها مجلة نيتشر التسلل الجينومي الكامل لخمسة من البشر البدائيين الذين يُعرفون باسم "إنسان نياندرتال المتأخر" والذين كانوا قد عاشوا قبل 39 ألف إلى 47 ألف سنة.

ولعل أشهر وأحدث القضايا التي تربط هذا التزاوج بين إنسان اليوم وإنسان النياندرتال هو انتشار فيروس كورونا، حيث رصدت دراسة ألمانية صلة محتملة بين جين ورثه بعض الأشخاص عن الإنسان البدائي القديم "النياندرتال" ومسار الإصابة بمرض كورونا وشدة أعراضه.

وفي دراسة  أُجريت في فصل الصيف الماضي أظهرت أن  مجموعة من الجينات  موجودة على الكروموسوم 3 قد تكون مرتبطة بزيادة مخاطر الاضطرار إلى تلقي العلاج في المستشفى أو الوضع تحت أجهزة التنفس الاصطناعي في حالة الإصابة بفيروس كورونا كوفيد-19.
وتم تحليل مجموعة الجينات ومقارنتها على وجه التحديد بالتركيب الجيني لإنسان النياندرتال البدائي. واتضح أن تسلسل الحمض النووي في عنقود الجينات المتسبب في زيادة الخطورة يشبه إلى حد كبير تسلسل الحمض النووي لإنسان نياندرتالي منحدر من المنطقة المعروفة اليوم بدولة كرواتيا قبل نحو 50 ألف عام.
وفي هذا الصدد قال معهد "كارولينسكا" في ستوكهولم: "اتضح أن البشر المعاصرين ورثوا هذا النوع الجيني من إنسان النياندرتال عندما اختلطوا مع بعضهم البعض منذ حوالي 60 ألف عام".

هذه الاكتشافات العلمية لم يكن يصل لها العلم لو تقيد العلماء الحقيقيون بما يحدده لهم بفهمه رجل الدين التقليدي الذي يرفض بطبيعة الحال نظرية التطور، تلك التي كان لها الفضل في العديد، بل ربما كل الاكتشافات البيولوجية الحديثة، ومن ثم اختراع أنواع العلاج المختلفة التي تعتمد أول ما تعتمد على اكتشاف الجينوم البشري والذي هو أحد نتائج وثمرات نظرية التطور.

إن العلم الآن يتعامل مع الأجناس البشرية التي سبقت الإنسان العاقل باعتبارها حقائق علمية، ولعل ما طرحناه هنا ما يؤكد ذلك ويثبته إثباتا كما في ذهن وعقل العلماء، باعتبار ذلك من البديهيات العلمية التي يتم البناء عليها.

نقول: ليس في العلم مقدس، فلو توقف العلماء عما ما كان قد تم فهمه وتفسيره في الكتاب أو الكتب المقدسة، ما حققوا شيئا من هذا، إن المقدس الوحيد هو الله سبحانه وتعالى وما أنزله من الحق، أما فهم الناس أو تفسير من يزعمون أنهم رجال دين فقهوا كل شيء فيه فلا قداسة لفهمهم ولن يوقف العلماء جهدهم ونشاطهم من أجل إسعاد البشرية نتيجة فتوى لهذا الشيخ ولا نتيجة فهم لكهنوتي، ولن يتوقف العلم عند حدود يخطها من ليس لهم في العلم "Science" من ناقة ولا جمل، وعلى هؤلاء الذين يزعمون فهما للكتب الدينية أن يلحقوا بالعلم، ويأولوا ما لم يمكن أن يتسق معه من فهم قديم للكتب الدينية.
 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط