• الإسْلام في القُرْآنِ الكَريمِ هو دَعْوَة كافَّة الرُّسُل والأنْبياء – عَلَيْهِمْ صَلَواتِ الله وسَلامُهْ – ونَبِيِّ الإسْلام هوَ حامِل آخِر رِسالاتِ السَماء إلى أهْلِ الأرْضْ –أرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعالَمينْ –وجاءَ كِتابُ الإسْلامِ مُصَدِّقاً لِكُلِّ ما سَبَقَهُ مِنْ رِسالاتٍ بِرؤْيَةٍ كَوْنيَّة تَحْتَوي العالَمْ بِكُلِّ ما فيهِ مِنْ مَخْلوقات. تِلْكَ الرؤْيَة نَتَعَرَّفْ عَلَيْها في أوَّل آيَة مِنْ فاتِحَةِ الكِتاب "الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين ..." – فَقَدْ أرادَتْ حِكْمَةُ الله أنْ يَكونَ الكَوْن كُلَّهُ قَريباً مِنَ الرَسولِ الرَحيمْ – فَجَمَعَ لَهُ في أصْحابِهِ كافَّة أجْناسِ البَشَرِ جَميعاً مِنْ عَرَبٍ وحَبَشٍ وفُرْسٍ و رومْ – أغْنياء وفُقَراء ... أقْوياء وضُعَفاء ...!؟! – ثُمَّ طَوَى لَهُ المَكان في رِحْلَةِ الإسْراءِ، وجَمَعَ لَهُ الزَمان ليَلْتَقي بِالأنْبياءِ فَيَكون إمامهُم، وعُرِجَ بِهِ إلى السَماواتِ العُلَى ليَرَى مِنْ آياتِ الله مالا يَخْطُرُ على قَلْبِ بَشَرْ ...!؟!–وبِهَذا الفَضْل الذي لَمْ يَسْبِقْهُ إليْهِ أحَدْ –كانَ خاتَم الأنْبياءْ، والإنْسان الكامِل الذي شَمَلَتْ رَحْمَتُهُ سائِر الكَوْنْ – هَذِهِ "الرؤْيَة الكَوْنيَّة" الشامِلة نَراها في عِباداتِ الإسْلامِ والمُعامَلاتِ والأخْلاقِ التي ارْتَضاها لِجَميعِ البَشَرْ ...!؟!.
• يُلْفِتُ "المُفَكِّرِ الإسْلامي الكَبير الدُّكْتور/ عَبْد العَزيز كامِل" رَحِمَهُ الله– أنْظارَنا إلى عِلاقَةِ الإنْسانِ المُسْلِمِ بِالكَوْنِ في كُلِّ عِباداتِهْ – فَفي "الوضوء" لِلصَلاة، والتَطَهُّر لِلعِبادَةْ – نَسْتَخْدِمُ الماءَ الطاهِرَ لِغَسْلِ أعْضاءٍ مُحَدَّدَةٍ مِنَ الجَسَدْ – مَصْدَر الماء مِنْ هذا الكَوْن (ماء المَطَر والعُيون أو الأنْهار والبِحار) والإنْسان عِنْدَما يَجْمَعُ هذا الماء بَيْنَ يَدَيْهْ، إنَّما يَجْمَعُ جُزْءاً مِنَ الطَبيعة – وكأنَّهُ يُصافِحُ الكَوْن مِنْ حَوْلِهِ بِواسِطَةِ هذا الماء – وكأنَّ هذا الماء يَتَحَدَّثُ إلى الإنْسانِ ويُناجيهِ بِقَوْلِهِ "إنَّما أنا طاهِرٌ فَكُنْ طاهِراً، وإنَّني مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ رَبِّي فَكُنْ مُسَبِّحاً مِثْلي بِحَمْدِ رَبِّكْ"...!؟! – وكَذَلِكَ "التَيَمُّمْ" فأنْتَ بِهِ تَقْصُد الصَعيد الطيِّب، وتَضَع يَدَكْ على الصَخْرِ أو أديم الأرْضِ الطَيِّبَة تَمْسَح بِهِ وَجْهَكَ ويَدَيْكْ –فَهوَ عَمَليَّة اتِّصال بِهَذا الكَوْنِ الكَبير ...!؟!... وفي "الصَلاة" تَقِفُ مُتَّجِهاً إلى القِبْلَة مِنْ أيِّ مَكان تَكونُ فيهْ، وبِهَذا تَتَخَطَّى حُدود المَكانِ مِنْ حَوْلِكْ لِتَقِفَ على نُقْطَةٍ في مُحيطِ دائِرةٍ كَبيرة يَقِفُ عَلَيْها مَلايينِ المؤْمِنين – لَيْلاً ونَهاراً – مُتَّجِهين إلى البَيْتِ الحَرامْ – في الصَلاةِ تَجِدُ نَفْسَكَ في لِقاءٍ مَعَ الكَوْنْ – أنْتَ تُناجي رَبَّكْ –والأرْض تُعانِقُ السَماء – وأنْتَ في الصَلاةِ على عَلاقةٍ بِظَواهِرٍ كَوْنيَّة تَبْدَأْ مِنْ طُلوعِ الفَجْرِ وشُروقِ الشَمْسِ وغُروبِها إلى غَسَقِ اللِّيْل – هَذا هوَ الرِباطِ الكَوْنِي في الصَلاة ...!؟!.
• يَقودُنا هذا إلى "الزَكاة" التي هى في الأصْلِ عَطاءٍ ظاهِرهُ نَقْص، لَكِنَّهُ في حَقيقَتِهِ زيادَةً ونَماءْ – يوَضِّحُ لَنا الرَسولُ الكَريم أنَّ ما نَغْرِسَهُ في أرْضِ الخَيْرِ يَنْمو ويَرْتَفِعْ، وأنَّ قُلوبَ العِبادِ وحاجاتِ المُحْتاجين هى أرْضٌ طَيِّبَة، وقَدْ دَعانا رَبُّنا إلى أنْ نَضَعَ فيها بَعْض البُذورِ بِما يَفيضُ عَنْ حاجَتِنا – بَعْدْ حِسابِ الجُهْدِ المَبْذولْ – فالزَكاة رِباطٌ اجْتِماعي واقْتِصادي يُذَكِّرُنا دائِماً بِالخالِقِ الذي أوْجَدَ هَذِهِ الخَيْرات وقَدْ جَعَلَها اخْتِباراً لِعِبادِهْ –فَمِنْهُم مَنْ يَخْتَبِرْهُ فيما مَلَّكَهُ إيَّاهْ، ومِنْهُم مَنْ يَخْتَبِرْهُم كَوْنِهِمْ لا يَمْلِكون – ليَنْظُرَ إلى مَنْ هوَ أحْسَنُ عَمَلاً وشُكْراً – وطالَبَ الكُل بِالسَعْيِ لِتَحْصيلِ الرِزْقِ قَدْرَ اسْتِطاعَتِهِمْ ...!؟!.
• وفي "الصيام" تَتَحَدَّدْ مَواقيتَهُ بِهِلالِ شَهْرِ رَمَضانْ – ويَوْم المُسْلِمِ الصائِمِ مُرْتَبِط في عِبادَتِهِ بِحَرَكَةِ الشَمْسِ– سُحوراًوإمْساكاً وإفْطاراً وقيامِ ليْل –لا دَخْلَ لِإرادَةٍ بَشَريَّة في ذَلِكْ، والصيام في حَقيقَتِهِ اخْتِبارٍ لِتَقْوى الإنْسانِ المؤْمِنِ في عِلاقَتِهِ بِخالِقِهْ، وإرادَتِهِ تِجاه كُل ما يُحيطُ بِهِ مِنْ مَخْلوقاتْ ... وفي "الحَجِّ" لِقاء بَيْن شَعائِرٍ ومواقيتٍ نأْخُذُها عَنْ رَسولِنا الَكريمْ –فَفي الحَجِّ يَلْتَقي الإنْسانُ بِالإنْسانْ – سَقَطَتْ عَنِ الجَميعِ حَواجِزِ اللونِ واللسانْ، وما بَيْنَهُم مِنْ فَوارِقٍ في مَظاهِرِ الحياةِ الإجْتِماعيَّة والاقْتِصاديَّة مِنْ مَكانَةٍ ومَنْزِلَةٍ وغِنَى وسَطْوَة نُفوذْ ...!؟! – وهَكَذا نَجِدُ في العِباداتِ هذا التَرابُطِ القَويِّ بَيْن الإنْسانِ والكَوْنْ – تَرابُطاً يَجْعَلُ مِنْ نَظْرَةِ الإنْسانِ الكَوْنيَّة نَظْرَة مَوَدَّة ورَحْمَة – نَظْرَة تَقوم على الصَداقة مَع مُكَوِّناتِ الكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِ ... مَعَ الماءِ والتُرابِ ... مَعَ الشَمْسِ والقَمَرِ والنُّجومْ– وأيْضاًمَعَ النَباتِ والحَيوانْ – مِنْ هُنا كانَتْ نَظْرَةُ الرَسولِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامْ – فَهوَ يَنْظُرُ إلى الوجودِ مِنْ حَوْلِهِ نَظْرَة مُفعَمة بِالحُبِّ والتَدَبُّرِ في بَديعِ صُنْعِ الله – فَلَمْ تَكُنْ حياتهُ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ صِراعاً مَعْ هذا الوجود أو علاقة تَحَدِّي لأنَّهُ يُدْرِكُ أنَّهُ بَشَرْ، وأنَّ هذا الكَوْن مِنْ بَديعِ صُنْعِ الله ... وهوَ الذي أوْجَدهْ ...!؟!.
• هَذِهِ هي نَظْرَة الإسْلامِ لِلْكَوْنِ ورؤْيَته لِلْحياةْ – نَظْرَة تَشوبُها المَحَبَّة والخَيْر – فانْظُرْ إلى كَيْفيَّة تَعامُلِ الآخَر مَعَ عَطاءٍ اللهِ في الكَوْن – في كِتابِهِ "الإسْلام والعُروبة في عالَمٍ مُتَغَيِّرْ" يُقارِنُ الدُّكْتور "عَبْد العَزيز كامِل"** بَيْن ما قامَ بِهِ العَرَبُ والمُسْلِمون مِنْ مَظاهِرِ الحَضارَةِ والعُمْران في أراضي شِبْه جَزيرة أيبيرْيا – وقَدْ سَمَّاها "الأنْدَلُس المَوْلودْ" هَذِهِ الحَضارة الإسْلاميَّة التي قامَتْ على الإخاءِ الإنْساني، لازالَتْ آثارِها باقية تَعْتَزُّ بِها الحُكومَة الإسْبانيَّة إلى اليَوْم – وبَيْن "الأنْدَلُس المَفْقود" في شَرْقِ إفْريقيا – الذي قامَ المُسْتَعْمِرون الأوربيِّون بِتَدْميرِهِ وإشْعالِ النيرانِ فيهْ – تَقودُهُمْ مَشاعِرِالكَراهيَّةِ والحِقْد...!؟!. – ويُشيرُ إلى ما ذَكَرَهُ الصَحَفي والمؤرِّخ البريطاني "بازيل ديڤيدسون" المُتَخَصِّص في الشُئونِ الإفْريقيَّة ومؤلِّف كِتاب "التاريخ والسياسة في أفْريقيا" كَيْفَ أنَّ المُسْتَعْمِرين مِنَ البُرْتُغاليِّين وغَيْرِهِمْ عِنْدَما وصَلوا في كُشوفِهِم الجُغْرافيَّة إلى السَواحِلِ الإفْرِيقيَّة – وَجَدوا مُدُناً عامِرَة تَموجُ بِمَظاهِرِ الرُقِيِّ والحَضارة، وشاهَدوا مُخْتَرَعاتٍ جَديدة لَمْ يَكونوا يَعْرِفونَها مِنْ قَبْل، ويَسْتَخْدِمُها أهْل البِلادِ في تَنَقُّلِهِم بَيْن شَواطِئِ شَرْقِ أفْريقيا والشواطِئِ العَرَبيَّة والآسْيَويَّة – بَدَلاً مِنْ مَشاعِلِ الحَضارَةِ القائِمَةِ أشْعَلوا فيها النيران وتَرَكوها نَهْباً لِلدَّمارْ...!؟!.
• الآنْ بَدَأْنا نَرَى كَيْفَ أنَّ العالَم أخَذَ يَثوبُ إلى رُشْدِهِ ويُدْرِكُ مَدَى الأخْطارِ الناجِمَةِ عَنْ سوءِ الاسْتِغْلالِ لِموارِدِ الطَبيعَةِ الذي يَقومُ على النَهْبِ والجَشَعْ، دونَ مُراعاة لِما يَنْجُم عَنْ ذَلِكَ مِنْ أضْرارٍ تُعاني مِنْها البَشَريَّة الآنْ – توجَدْ الآن اتِّفاقيَّات دَوْليَّة لِلْحِفاظِ على البيئَةِ ومواجَهَةِ ظاهِرةِ التَصَحُّرِ وكوارِثِ تَغَيُّراتِ المُناخْ – الناجِمَة عَنِ الانْبِعاثاتِ الغازيَّة الضارَّة في عَمَليَّاتِ التَصْنيعِ وهى مِنْ أشَدِّ مُلَوِّثاتِ الماءِ والهَواءِ والنَباتِ والقَضاءِ على الأحْياءِ المائيَّة والبَرِّيَّة – ولا سَبيل لإنْقاذِ الحياةِ على وَجْهِ الأرْضِ دونَ الأخْذِ بِعَيْنِ الاعْتِبارِ النَظْرَةِ الإسْلاميَّة في التَعامُلِ مَعَ مَخْلوقاتِ الله واحْتِرامِ الإنْسانِ لِلْكَوْن – فَمُكَوِّنات البيئة الطَبيعيّة هى "عَطايا إلَهيَّة" يَنْبَغي على جَميعِ البَشَرِ التَعامُلِ مَعَها بِالشُكْرِ والعِرْفانِ بَدَلاً مِن المَظاهِرِ الفَجَّة لِلجُحودِ والنُكْرانِ التي تَسودُ الحياة في هَذا العَصْر المأْزوم !؟! – ولا نَجاة مِنْ هَذا الدَّمار بِغَيْرِ العَوْدَة إلى النَظْرَة الصَديقة لِلْكَوْنِ دونَ نَهَمٍ أو جَشَع في اسْتِغْلالِ الموارِدِ الطَبيعيَّة ودونَ الإضْرار بِمُقَوِّماتِ الحياة ...!؟!.
• ... لا أجِدُ ما اقولُ في "خاتِمَةِ المَقال" سِوى أنَّ الإسْلام بِنَظْرَتِهِ الرَحيمةِ الودود إلى الإنْسانِ والكَوْن لا يَقْبَلُ قِسْمَةَ العالَمِ على أساسِمَنْ يَعْرِفونَ ومَنْ لا يَعْرِفونْ ... أو مَنْ يَمْلِكونَ ومَنْ لا يَمْلِكون ...!؟! – بَلْ إنَّهُ يَسْتَهْدِفُ تآخي وتَآزُر بَيْنَ كُلِّ البَشَرْ – يَكونُ فيهِ "العِلْمِ وموارِدِ الحياة" مَجالاً لِتَعاونٍ إنْساني مُثْمِرْ – ولَيْسَتْ أسْلِحَة في أيْدي الاقْوياءِ يَتَحَكَّمونَ بِها في مَصيرِ الضُّعَفاءْ ...!؟! – وأنَّ واجِب "العَرَبِ والمُسْلِمين" اليوم إسْتِلْهامِ "الهَدْيِ النَبَوي" وتَرْجَمَتِهِ في حياتِهِم – لِأنَّ الإنْسانيَّة أحْوَجُ ما تَكونُ إليْهِ الآنْ في أوْضاعِها المُتَرَدِّيَة الراهِنة – وقَدْ غابَتْ عَنْها مَشاعِرِ الرَحْمَةِ والخَيْرِ والسَلامْ ...!؟!.
"...رَمَضانْ كَريم ... وأنْتُمْ بِخَيْر في كُلِّ عامْ ...!؟!..."
** د. عَبْدِ العَزيز كامِل "الإسْلام والعُروبَة في عالَمٍ مُتَغَيِّر" – كِتاب العَرَبي العَدَد (22) – "مَجْموعَة مَقالات" – الكويت – يَناير1986م.