الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الأب وأرض الرَحّالة يحصدا جوائز الأوسكار 2021

أُقيم حفل توزيع جوائز الأوسكار هذا العام الأحد الماضي بالتزامن مع تطبيق الإجراءات الاحترازية لمواجهة جائحة كورونا والتي فرضت بعض التعديلات في ترتيبات الحفل السنوي منها تأجيل الحفل وهي المرة الرابعة في تاريخ توزيع جوائز الأوسكار التي يتم فيها تأجيل الحفل عن موعده الأصلي منذ أن بدأ التقليد في عام ١٩٢٧ والذي كان مقرراً هذا العام في نهاية شهر فبراير الماضي.
استعرضت في مقالتي السابقة الأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار أفضل فيلم وهم ثمانية أفلام ووضعت عنواناً عريضاً لموضوعات الأفلام المرشحة وهو المعاناة الإنسانية ومحاولات التغلب عليها وهذه المعاناة نوعان داخلية شخصية ومعاناة مع صراعات الحياة الخارجية.
في هذه المقالة استعرض معكم جوائز الأوسكار لأفضل فيلم وأفضل ممثل وأفضل ممثلة وأفضل مخرجة وتنحصر هذه الجوائز في فيلمين هما فيلم الأب The Father وفيلم أرض الرَحّالة Nomadland ومن بين الثمانية في اعتقادي أن هذين الفيلمين يكملان بعضهما البعض إنسانياً. فهما الفيلمان الوحيدان اللذان يكمن صراع المعاناة الإنسانية فيهما في الداخل وليس مع عوامل خارجية وصراعات مع البيئة المحيطة. وهذا هو ما يجمعهما. 
بعد الإعلان عن الجوائز يحق لي الآن تغيير العنوان العريض إلى ”رحلات المعاناة الداخلية للإنسان تتربع على عرش جوائز الاوسكار لعام ٢٠٢١.“
سأتحدث هنا عن محتوى الفيلمين من الناحية الفلسفية وأتطرق إلى بعض الجوانب الفنية لهما.
وأبدأ بالإجابة عن لماذا يكملا هذين الفيلمين بعضهما البعض؟ بالرغم من تباعد واختلاف الموضوعات فالإجابة هي ذلك لأنهما يسلطا الضوء على نفوذ العقل البشري وهيمنته على حياة الإنسان سواء في حالة النسيان وفقدان الذاكرة في فيلم الأب وفي حالة صعوبة التغلب على الذكريات وعدم نسيانها في فيلم أرض الرَحّالة. والمتحكم والمايسترو في الحالتين هو العقل البشري. في فيلم الأب يفقد المايسترو النوتة الموسيقية فتصبح معزوفة حياة البطل أشبه بالأوراق المتطايرة وفي الحالة الثانية يعيد ويزيد المايسترو في عزف مقطوعته لدرجة أن تتمني البطلة أن تتوقف معزوفة حياتها ليتوقف نزيف ألم الذكريات.
ولا أنكر سعادتي بتربع هذين الفيلمين على عرش جوائز الأوسكار هذا العام لأن الفيلمين عبارة عن عملين فنيين مبهرين من داخل طلاسم العقل البشري المعقدة، في فيلم الأب البطل خذله عقله فانتهت حياة البطل وفي فيلم أرض الرَحالة تكيفت البطلة مع الحالة الذهنية للفقد والذكريات فكان من نصيبها بداية صفحة جديدة من حياتها. 
فاز الممثل المخضرم أنتوني هوبكنز (٨٣ عاماً)  بجائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم الأب وفازت الممثلة المخضرمة فرانسيس ماك دورمند (٦٣ عاماً) بجائزة أفضل ممثلة عن دروها في فيلم أرض الرَحّالة ولا عجب لأن الدورين بالفعل يحتاجان قدرات تمثيل خاصة لأن البطولة ليست في الصراع مع أبطال الحبكة الدرامية المعتادة من خير وشر وعناصر خارجية تتصارع مع البطل أو البطلة. القدرة الحقيقة تكمن في هذا الصراع الداخلي مع العقل البشري ذلك العضو المتحكم في نظرتنا للحياة وفي قدرتنا في التفاعل معها والتي قد يسلبها منا كما فعل مع بطل فيلم الأب أو قد يغير نظرتنا في الحياة تماماً كما فعل مع بطلة فيلم أرض الرَحّالة. من الجميل أن نرى الإنسان وصراعه الداخلي هو عنوان أهم جوائز الأوسكار هذا العام. وخصوصاً في ظل ظروف معاناة جائحة فيروس كورونا والذي غير وجه حياة الإنسان على الأرض ونظرته لأمور كثيرة نظراً لتأثيره المباشر على الصحة النفسية لكثيرين. 
عندما يبدأ العقل البشري في خذلان صاحبه فإنه يبدأ في التقوقع وجاء ذلك ملموساً في مشاهد فيلم الأب التي جاءت معظمها داخل غرف المنزل. الغرف وأبوابها جاءوا كأبطال لمشاهد فيلم الأب تعبيراً عن الحالة الذهنية التي دخل فيها البطل وتعبيراً عن أبواب ذاكرته التي بدأت أن تُغلق نفسها رويداً رويداً.  ولم تقتصر مشاهد الغرف على الإحساس بالإنغلاق الذي يعيشه البطل ولكن توجت الموسيقى التصويرية الإحساس بذبذبة الصورة وكأن الغرف تزدوج في بعض المشاهد بسبب صدى الصوت والصفير ومع انغلاق الغرف وأبوابها لعبت الموسيقى دوراً هاماً في التأكيد على تباعد المسافة بين الواقع وبين ما يجري في عقل الأب. وهي مرحلة الإنفصال التي يعيشها البطل بسبب مرض فقدان الذاكرة.
وعن ساعة الأب ورمزية الزمن والزمان في الفيلم. وكأن الساعة هي الزمن الذي بدأ يختبأ منه مع تطاير أوراق ذاكرة العقل. ومع فقدان ذاكرة أحداث الحياة يفقد الوقت معناه ويختبأ الزمن كما تختبأ ساعة البطل أو يحاول عقله هو أن يخفيها. الزمن لابد وإن يتوارى مع اختفاء تسلسل الأحداث في ذاكرة الإنسان.
وعن أداء الممثل الكبير أنتوني هوبكنز أقل وصف له إنه آسر بالمعنى الحرفي وهو يعكس نفس أداء ذلك العقل الذي يحاول المشاهد أن يركز معه وهو يشاهد الفيلم ولكنه يُفاجئ  إنه في مراحل الإنفصال عن الزمان والوقت بسبب فقدان الذاكرة. ففي كل مرة يأسرك وتحاول أن تفهمه وتتبعه تصطدم بأنه غائب تتطاير أوراقه. وهذا هو ما فعله الفيلم بنا في طريقة إخراجه.

فيلم الأب إنساني واقعي .. بطولة القصة للصراع مع الرحيل والإذعان له والذي يبدأ مع رحيل الذاكرة.

ولكن ماذا لو هذا أن نفس هذا العقل البشري متمسكاً بذكريات الماضي؟ 
الإجابة في الفيلم الفائز بجائزة أوسكار أفضل فيلم أرض الرَحّالة من إخراج المخرجة الصينية كلويه زاو وهي ثاني إمرأه في تاريخ جوائز الأوسكار تفوز بجائزة أوسكار أفضل مخرج. وقد يعتقد البعض أن كلويه فازت بهذه الجائزة هذا العام لرأب الصدع بين الشعبين الأمريكي والصيني بعد تزايد حدة حملات الكراهية للجنسيات الآسيوية خاصة الصينية بسبب جائحة كورونا ولكن في الحقيقة أن فوز الفيلم نفسه هو تحية لمفردات الثقافات الشرقية التي تتمتع بكثير من الرمزية والروحانية والإندماج مع الكون والتعافي بالإلتحام مع عناصر الطبيعة وتقديرها والتي أصبحت لغة عالمية بسبب حاجة النفس البشرية لواحات آمان خارج الصخب المادي وتسارع وتيرة الحياة دون التقاط الأنفاس. فأصبح الكون والطبيعة ملاذاً لتعافي الأرواح.
جاء هذا التزواج الرقيق بين مفردات لثفافات آسيوية مع تجربة ترحال لإمرأه أمريكية من الغرب الأمريكي اسمها فيرن وهو اسم بطلة فيلم ارض الرَحّالة.
الفيلم يجيب عن عكس تجربة فيلم الأب. ماذا لو تمسك العقل بذكرياته خاصة المؤلمة؟ في البداية قد يشعر الإنسان بالعجز أمام قوة العقل في احتفاظه بالذكريات ولكن في النهاية سيساعدك العقل وسيعطيك الفرصة لتعيش خارج إطار الذكريات شريطة أن تساعد أنت نفسك وتقرر أن الحياة اختيارات ومسارات. ذكريات الماضي ما هي إلا بوابة عبور لواقع وحاضر جديد. وهي إشارة أن العقل يريد أن يهديك حاضراً جديداً تمتلك فيه أدوات ذكريات الماضي التي ستصنع منك إنساناً جديداً قادراً على عبور مرحلة جديدة. هذا هو جزء من محتوى أفكار الفيلم المغلفة بتقاليد وثقافة الغرب الأمريكي في الترحال في عربات فان أو شاحنة ترحال. فبطلة الفيلم رَحّالة في عربة فان أطلقت عليها اسم vanguard وذلك بعد أن كانت تعيش حياة مستقرة طوال حياتها في ولاية نيفادا الأمريكية مع زوجها الراحل ثم دفعتها ظروف حياتها للترحال مع وفاة زوجها وإغلاق مقر عملهما للأبد.
يبدأ الفيلم بمشهد في مدينة إمباير بولاية نيفادا في شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية ومشهد لبطلة الفيلم تُودع أغراضها في مخزن استعداداً للرحيل في عربتها في طقس شديد البرودة يحيطها الثلوج البيضاء سيشعر المشاهدين ببرودة الحياة مع أنفاس فيرن وليس فقط في الطقس هكذا تبدأ رحلتها مع غياب دفء الحياة. 
في فيلم الأب كانت بطولة المشاهد للغرف والأبواب ولكن في فيلم أرض الرَحّالة فالبطولة للكون ورحابته واتساعه وللإندماج والالتحام مع الطبيعة والتعافي مع كل عناصرها كالماء والرياح والهواء والنار والأرض والصخور وهذا المنطق هو جزء من ثقافات آسيوية منها الهندية مثلاً وقد بدا هذا واضحاً في كثير من مشاهد الفيلم والتي وضعتها المخرجة الصينية كلويه زاو بمنتهي الحرفية حتى لا نشعر إننا بصدد فيلم عن الطبيعة ولكنها خلقت للبطلة ملازاً لمعاناتها. تفاعل طاقة الكون الجميلة مع طي صفحات ذكريات الماضي للبطلة بدا واضحاً أيضاً في مشاهد الغروب والشروق الرائعة. بعض أفلام الترحال قد تركز في إخراجها على حركة قيادة العربة وقيادة السائق للعربة ولكن هذا الفيلم ليس من هذه النوعية لأن ما يتحرك ويرحل هي مشاعر البطلة وتفاعلها مع الكون والطبيعة والشخصيات التي تقابلها فيرن. ليس الغرض من وجود عربة الترحال التركيز على القيادة ولكن على العربة كملاذ ومنزلاً والإحساس بإحتواء هذا البيت الصغير للتجارب والذكريات والانتقال معهم. فلا مكان في هذا الفيلم للإحساس بإنهاك القيادة وطول الطرق بالرغم من انتقال البطلة بين الولايات المتباعدة ولكن الرحلة الداخلية هي التي لها الغلبة. فالترحال من أجل التعافي والرحيل عن الذكريات. والقيادة في هذا الفيلم هي قيادة أوراحنا لملاجئ ترتاح فيها لتستمر الحياة.

والحركة في المشاهد تأتي تاكيداً على حركة الترحال في وجه التغيرات وتغير المشاعر وعن بحثنا عن ملاجئ لمشاعرنا في الكون وفي أحضان الطبيعة وهو عكس فكرة الهروب من مشاعرنا مع الترحال وأما عن وجود عربات الترحال نفسها أو فكرتها وبالبرغم من صغرها فهي تحمل جزء من الذكريات التي ربما نبحث عن من يحملها معانا مع الترحال ليهون علينا الرحلة او أن نتخلص منها نهائياً لنرحل بعيداً عنها .. هذا هو جزء من قصة الترحال والرَحّالة داخل عرباتهم.
وفي رحلة الترحال الحياة خسارة وفقدان ومعارك والاصعب أن مع كل هذا الإنهاك الإنساني الذي نعاني منه والذي قد نجد له اجابات وقد لا نجد له آية إجابات .. لهذا نبحث مجموعات تشبهنا في الحياة ونبحث  أيضاً عن أماكن تحتوينا وتحتوي آلامنا وأحزاننا.
مشاهد الانتقال من الصقيع الى الدفء إلى مشاهد سطوع الشمس ما هي إلا إنعاكس لتفاعل البطلة الداخلي مع ذكرياتها والتي بدأت تتلاشي مع سطوع الشمس على حياتها وصراعها مع الحزن .. فهي في بحث دائم عن مكان داخلها او خارجها تسطع به الشمس. 
الفيلم بأكمله رحلة بحث عن قيم الجمال والحرية والاتصال بالارض والطبيعة للتعافي والشفاء من أحمال الحياة. 
رحلة الرَحّالة والحياة محطات .. لقاء ووداع واختيارات. لقاءات البطلة فيرن مع شخصيات مثل سوانكي وليندا ماي محطات مؤثرة لدروس الحياة. وتؤكد على فكرة عبور الأشخاص في حياتنا على هيئة دروس. دروس عن معني الألم لنا وللأخرين والمرض ورحيل الأصدقاء والمشاركة. وبالرغم من ثقل اسم الدروس إلا إنها أتت مغلفة بلحظات صداقة جميلة ومبهجة في كثير من الأحيان في الفيلم لتضفي جواً من الدفء.
في الترحال نتعلم كيف نتعامل مع ذكرياتنا وكيف نواجها ونحبها ونتعايش معها. الذكريات بمرور الوقت قد تصبح جزء من الواقع أو تنفرط عن عقد الحاضر والاختيار دائماً لنا. وتستمر الذكريات التي نغذيها في عقولنا ونتذكرها وترحل ذكريات مع تجاهلها.
ونحن في رحلة التعافي تختبرنا الحياة باختيارات كما أهدت الحياة فيرن صديقها ديف والذي أعجب بها وعرض عليها حياة أكثر استقراراً مع عائلته داخل منزل غير متنقل ولكنها رفضت. مما يؤكد أن الحياة بعد بعض التجارب تصبح أيضاً اختيارات.
في المشاهد الاخيرة للفيلم تحاول فيرن مغادرة احزانها .. بوداع أماكن ذكرياتها في نيفادا للمرة الأخيرة والتخلص من باقي أغراضها التي تركتها في المخزن في مشاهد الفيلم الأولى. فما نتذكره يعيش وما نتركه يرحل. 
الفيلم مهدى لمن رحلوا فلربما نراهم في رحلة المستقبل هكذا قرر صانعو الفيلم .. وفي اعتقادي قد تراهم أرواحنا في رحلة المستقبل من منظور جديد مختلف عن منظور رحلة الفقد المؤلمة في الماضي بعد تعافي أرواحنا ..  
 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط