الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمود أبو حبيب يكتب: ثلاثون ليلة من الجامع الأزهر

صدى البلد

 

منحني القدر هدية عظيمة، لا أدري إن كنت قد أحسنت استغلالها فأفوز فوزًا عظيمًا، أم ضيعتها وأهملتها فأكون من النادمين، واللهَ أسال أن يجعلني من الذين تركهم رمضان وقد ترك فيهم.

ولأننا لا زلنا في زمن الحظر والناس تتوجس خيفة من الاجتماع حتى على العبادة؛ فإن كل هذا جعل هديتي أثمن وأسمن، فأن تكون واحدًا من الساهرين على نفحات رمضان تحمل الناس عليها وتذكرهم بها فهذا فضل لو علمت عظيم، فقد حرصت على ذلك مع الزملاء منذ استبان هلال رمضان، ومكثنا خلف مآذن الجامع الأزهر ومنبره؛ ننقل للناس في كل أقطار الدنيا شعائر صلاة العشاء والتراويح، لنُشعر الناس بألفة هذا الشهر الكريم، والتي حرم وباء "كورونا" الكثيرين منها.


عندما يرفع المؤذن صوته داعيًا إلى الحق صادعا بآذان المغرب، فيزول حجاب الصيام عن الناس وتتسابق أيديهم إلى الخيرات التي حرموا منها طول النهار، تتسابق معها أقدامنا إلى ساحة الجامع الأزهر، وقد كان الحرص الذي كان لدى الصائمين؛ لبلوغ وقت الإفطار، هو ذاته الموجود بداخلنا لنُسمعهم الأذان مع دعاء ونفحات تربطهم بشهرهم الكريم، وقبل أن يفرغ الناس من إفطارهم، كنا ننهي نحن أيضًا إفطارنا الذي لم نُصب منه سوى تمرة أو تمرتين وجرعة ماء، وقبل أن يهموا إلى صلاة العشاء كنا نسبقهم إليها.


وما هي إلا لحظات ويرفع المؤذن نداء الحق ويصطف الناس خلف الإمام، مع حالة من الارتباك كانت تملا الكاميرات وأجهزة البث لدينا، تبث في نفوسنا الخوف والقلق من أن لا تصل نفحات رمضان للجالسين في مجالسهم أو نعجز عن توثيق هذه الأعمال العظيمة، وعندما ينادي زملينا حبيس غرفة الكنترول بصوت لجب" إحنا هواء يا شباب"، تصيبنا فرحة من وجد ضالته.

وبينما يستمتع المصلين ومعهم المشاهدون بسماع الأصوات العذبة، لا يزال لجب الصوت يتنقل بين الكاميرات، صوت لا يسمعه إلا نحن، يلوم هذا ويوبخ هذا؛ حرصًا منه أن يغمس الناس في نفحات رمضان، وكما كنا نخطف التمرات ورشفات المياه على الإفطار، كنا نخطف الركعات فيصيبنا ما أصاب المصلين من فرح وبشر بهذه النفحات.


تجلس أمام الشاشة أو تمسك بهاتفك تتابع نفحات الجامع الأزهر، تسمع صوت رخيم بأسلوب منمق وبكلمات معدة سهرًا وتعبا، يأخذك معه في فواصل الركعات وكأنها تسلية للقلوب وترويح لها، وبين صوت يبث الطمأنينة في نفوس الناس، وآخر لجب يملأه الحرص والهمة، تُكمم أفواههم لا تستطيع الكلام، فتُكتم غيظًا وتمشي على استحياء، فيتم الناس صلاتهم دون أن يشعروا بهم ويتمون هم عملهم فيشعرون العالم كله بنفحات رمضان، فكانوا يتسترون خلف الكاميرات ليرى الناس جمال وعظمة هذه النفحات.

وبين أصوات صادحة وأخرى مكممة، يظل صوت الرفض هو صوتي لكل طلباتهم فلم أكن مجيبًا لهم إلا في قليل من كثير، فلم يكن أمامهم من تحدي طيلة هذه الليالي أكثر مني، إذ كنت دائم الشرود عنهم، أبحث عن صديقي الذي صادقته منذ أول ليلة من هذه الثلاثين، لا أعرف عنه شيئًا سوى أسمه "عم مصطفى"، جاوز ال 70 أو ال 80، كان دائمًا يلومني ويشعرني بالتقصير، لم يقل ذلك بلسانه وإنما قاله بفعله، فكان يصلي حتى يعود المصلون ولا ينقطع عن صلاته وتلاوته، تذهب وتعود وتجده لم ينتهي ما بدأه مع ربه، فوددت لو أني لم أراه حتى لا أرى صورتي الحقيقة في مرآة عبادته.


وبعد أن يفرغ المصلون ويهرولون إلى ديارهم فرحين مستبشرين بما أتاهم الله من فضله،
ونظل نحن نهرول في الجامع الأزهر نفتش عن نفحات وكنوز تحت سواريه لنبثها في الناس، فتعينهم على صيامهم وترشدهم في حياتهم، نظل في قلقل وارتباك من أن يحدث خلل أثناء البث ويظل الصوت اللجب يطاردنا لساعات طيلة عملنا، ولا يسرنا سماعه إلا عندما يقول "فركش يا شباب"، وساعتها نتنفس الصعداء أن مضت ليلة استطعنا أن نوثق فيها خيرات ونفخات رمضان، واللية تتلو الليلة إلى أن عددتها ثلاثين ليلة، مضت، وبقي الأمل والرجاء أن يتقبلها الله، والشوق في أن تعود علينا فنعود كما كنا.

ثلاثون ليلة بدت لو أنها متشابهة للناظرين، لكنها مختلفة لدينا؛ فلكل ليلة منها: أحداثها ومواقفها وتحدياتها التي خبئتها الكاميرات، ولكن لم يظهر سوى الخير الذي يدره رمضان، كان عناءً وتعبًا لكن لا كدر فيه ولا ملل، اشتقنا فيها لأهلينا وأصدقائنا ولكن قابله شوق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى شهر ينتظرونه من العام للعام، فآثرنا شوقهم على شوقنا.