الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد مبروك الشيلاني يكتب: القدسُ بين قدَرِها وقدْرِها

صدى البلد

بينما يعيش المسلمون أجواء شهر رمضان المبارك، حيث الروحانيات العالية والعبادات السامِيَة والإحسان إلى الفقراء، وما أعقب ذلك من قدوم عيد الفطر، حيث صلاة العيد واحتفالاته وزياراته؛ إذا باليهود يدنسون المسجد الأقصى في شهر رمضان ويشرعون في قتل وجرح أهله، فلم يقيموا وزنًا لحرمة المكان ولا الزمان ولا الدماء، ثم راحوا يعكرون صفو العيد على أمة الإسلام وأهل القدس الشريف، فرَّوعوا الآمنين وأدخلوا الحزن على قلوب وبيوت المسلمين في موسم من مواسم أفراحهم، وبدلًا من أن يذهب أهل فلسطين إلى الحدائق والمتنزهات -كسائر شعوب الأرض في الأعياد- ذهبوا لدفن الشهداء ورعاية وزيارة المصابين الأبرياء، فأصبح من واجب الوقت أن نتذاكر قضية القدس ونذكر أنفسنا وأمتنا بها ونعرف واجبنا تجاهها.

فالأقصى بمكانه ومكانته وتاريخه ورمزيته هو الميزان الذي يُعرف به قـَدْرُ الأمة الإسلامية بين الأمم، من حيث الوحدة والريادة، أو الفُرقة ولزوم الوسادة. وهو المؤشر الذي نعرف من خلاله حال الأمة قوةً وضعفًا، فإن كان المسجد الأقصى مسلوبًا فالأمة منكوبة، وإن كان مهددًا أو محاصرًا فالأمة تحيط بها المخاطر وتحوطها الأزمات من كل اتجاه، وإن كان محررًا وآمنًا فالأمة في قوة ومنعة. وقد كان الأقصي ولا يزال وسيظل حجر الزاوية ومركز الدائرة في الصراع بين الحق والباطل. 
ومن فضائل الأقصى الشريفة وخصائصه المنيفة: أنه أولَى القبلتين؛ فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستقبله في صلاته، ويجعل الكعبة بينه وبين المسجد الأقصى قبل الهجرة، ولما هاجر إلى المدينة المنورة ظل يصلى شَطْرَهُ مدةً جاوزت ستة عشر شهرًا وقيل سبعة عشر شهرًا قبل أن تُحَوَّل القبلة إلى الكعبة، وبهذا فقد جمع الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم) بين قبلة بني إسرائيل وقبلة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام). ثم إنَّ الأقصى هو ثاني المسجدين، ففي حديث البخاري أنَّ أبا ذر (رضي الله عنه) قال: "قلت: يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة". 
والمسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي. كما أنه منتهى إسراء سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) في الرحلة الأرضية، ومُبتدأ معراجه إلى السماوات السبع ثم إلى سدرة المنتهى في الرحلة العُلوية، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها؛ ففي حديث الشيخين "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثَلاثةِ مَساجِدَ: المَسجِدِ الحَرامِ، ومَسجِدِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومَسجِدِ الأَقصى"، والصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه؛ ففي حديث ابن ماجه عَنْ مَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ:  فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ". 
وقد كان للأنبياء والصحابة اتصال وثيق بالقدس، فمنهم من زارها ومنهم من سكنها ونزل عليه الوحي فيها ومنهم من دفن بها أو بالقرب منها، فأما الأنبياء فمنهم: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وداود وسليمان وموسى ويوشع واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام)، وأما الصحابة فمنهم: عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وأبو عبيدة بن الجراح وبلال بن رباح ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس  (رضى الله عنهم). 
وقد جادت تربة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بجمٍ غفيرٍ من الأئمة الأجلاء، منهم: ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري بشرح صحيح البخاري والطبراني صاحب المعجم وابن قدامة الحنبلي صاحب المُغنِي والرحالة شمس الدين الداودي صاحب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وأبو بكر النابلسي وابن المفلح وشمس الدين السَّفّارِيني وعبد الغني المقدسي وغيرهم كثير.
ومن الأعلام الذين زاروا المسجد الأقصى: الإمام البخاري والنسائي وابن ماجه وابن خلدون وابن بطوطه وابن الصلاح وغيرهم. ولقد حرص كثير من أهل العلم على الإقامة والتدريس في المسجد الأقصى، كالعز بن عبد السلام وأبي حامد الغزالي وغيرهما. 
ومن أجل المسجد الأقصى نافح وكافح وجاهد القادة والأبطال، ومن هؤلاء:
• عمر بن الخطاب فاتح بيت المقدس الذي كان يررد قولته الخالدة: "وما القدس عند الله إلا كمكة".
• ونور الدين زنكي الذي جابه الصليبين ودوَّخهم.
• وصلاح الدين الأيوبي بطل حطين الذي كان يقول: "كيف أبتسم والأقصى أسير؟".
• وسيف الدين قطز بطل معركة عين جالوت.
• والظاهر بيبرس الفارس المغوار الذي كسر شوكة التتار. 
ولعمارة المسجد الأقصى ثوابٌ عظيمٌ وشرفٌ كبيرٌ؛ لهذا فقد حرص كثير من حُكام وأمراء المسلمين على وضع بصماتهم في ساحاته، من خلال أعمال التوسعة أو البناء أو الترميم. وكانت قبة الصخرة ولا تزال أهم وأجمل الرموز المعمارية للمسجد الأقصى. 
ويخطئ من يظن أنَّ الحرم القدسي الشريف هو مسجد قبة الصخرة فحسب؛ لأن الجامع الأقصى أوسع من ذلك بكثير، فهو يحوي في داخله عدة مساجد ومصلياتٍ، كمسجد المغاربة ومسجد البراق والجامع القبلي وجامع النساء والمصلى المرواني، وبه عدة قبابٍ: منها القبة سالفة الذكر وقبة المعراج وقبة النبي وقبة السلسة وقبة الأرواح، إضافة إلى أربعة مآذن، وعدد كبيرٍ من المدارس، من بينها: المدرسة البكرية والمدرسة الباسطية والمدرسة الأشرفية، وعدد لا بأس به من الأروقة، وجمعٍ هائلٍ من الأسبلة، كما أن للمسجد الأقصى عددٌ كبير من الأبواب التي تؤدي إلى ساحاته، وقد بلغت المساحة الإجمالية للمسجد الأقصى 144 ألف متر مربع. 
وكما أُعلِنت الوراثة المحمدية لجميع الرسالات السماوية السابقة إعلانًا عمليًّا عند الصخرة المشرفة في رحاب القدس ليلة الإسراء بإمامة سيدنا محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) لجموع الأنبياء (عليهم السلام)، فسوف تعلن تلك الوراثة للمرة الأخيرة والخاتمة في آخر الزمان، حيث يصلى المهدي (عليه السلام) -وهو رجل من أمة وذرية سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)- إمامًا بالمسلمين وبسيدنا عيسى (عليه السلام) في رحاب الأقصى، وتجري أحداث المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، وفيها ينصر الله المسلمين نصرًا عزيزًا مؤزرًا، وتتخلص الدنيا كلها من شرور المسيح الدجال، ثم تكون الأرض المقدسة فيما بعد ساحة للمحشر والمنشر، حين يقوم الناس من قبورهم يوم القيامة.
إنً القدس ضاربة بجذورها في التاريخ، وشاهدة على أحداث جسام، وهي بقعة باركها الله وبارك حولها، فكان قدَرُها وقدْرُها أن تصبح موطنًا للرسالات، ومرقدًا للأنبياء، وملتقىً للأولياء، ومدينة للسلام، وميدانًا للصراع. وقد تفرد المسجد الأقصى بخاصية تميز بها على سائر المساجد والبقاع المقدسة، ففي رحابه وأكنافه قُرأَت الكتب السماوية الخمسة: صحف إبراهيم، والزبور، والتوارة، والإنجيل، والقرآن. كما تشترك مدينة القدس مع جبل الطور في سمة فريدة، هي تقديس وإجلال أصحاب الرسالات الثلاث "اليهودية والمسيحية والإسلام" لكل منهما.
وقضية المسجد الأقصى يجب أن تكون قضية كل مسلم وعربي؛ فهو وديعة الله في أعناق المسلمين جيلًا بعد جيلٍ، ووصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أمته، فلا ينبغي أن ننسى جراحه، أو نتناسى فضله، أو نجهل مكانته، أو نغض الطرف عن أنينه؛ فاللهم قر أعيننا بتحرير المسجد الأقصى، وأعده إلى رحاب المسلمين، واجمع شمل أمة سيدنا محمد، ووحد صفها على الحق يا رب العالمين.