الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب : علبة سجائر

صدى البلد

 
 السيجارة الأولى له فى الصباح  يصعب التنازل عنها ، يُطلق أنفاسها كالرصاصة وهو يتابع  تلك الصور الصادمة يومياً، أكوام القمامة ، الأراضي المهجورة ، الأسوار ، و لافتات الإعلانات الكبيرة على الطريق . هو يدخن بشكل مفرط . واحدة تلو الأخرى ، بدون توقف أو انقطاع، حيث لا تسقط السجائر من يده مطلقاً . 
يقف أمام باب الغرفة الموارب  يطلب من زوجته أن لا توقظه من النوم . حاول أن يغلق الباب على نفسه ولكن كُم القميص يعاكسه ويخرج  من الباب ، كررها أكثر من مرة حتى انتهى الأمر بإلقاء القميص على الأرض وأغلق الباب ... جلس على حافة الفراش  يرى نفسه في مرآة الدولاب الباهتة ، وقد ضرب البياض شعره ،  لن يفلت من ذلك المصير أبداً .  أشعل سيجارة والتهمها ثم دفنها فى المطفأة ، رفع قدميه ببطء واستلقى بجسده المنهك على السرير  .  مرً الوقت ومازال صوت أنفاسه يعلو .... 
استيقظ على صوت الخطوات ترن فى أذنيه  ... زوجته تدخل من الباب  و تشعل النور وقد حملت تل ثياباً مغسولة . التقت  عيناها بعينه دون كلام ، ظل  يرمقها بنظرات خرساء . جمع عظامه ونهض تاركاً لها المكان ، جلس على الكرسي بجانب النافذة ، يضع ساقاً على ساق ويهز قدمه ، أشعل سيجارة فهو يشتهي رائحتها و يشتهى أيضا رؤية حلقات الدخان تفوح من بين شفاه التى صبغها التبغ  بالسواد. يدخن باستمتاع لأن العلبة مازالت ممتلئة . تُلقى هى الثياب فى المكان الذى كان يشغله وبدأت تطوى ملابسه  وهو يتأمل شعاع النور البعيد من النافذه . مرت ساعات بنفس المشهد و  بصمت ثقيل . 
نعم هو لا يبالى كثيرا .... فعندما دخل العيادة صافح الطبيب ، وجلس أمام مكتبه وقال له الطبيب : إنه أوشك أن يتصل للاطمئنان عليه بعدما تأخر كثيراً ... بدأ حديثاً طويلاً وتحدثا عن البلد وأحوالها والموجهة الثالثة والرابعة المحتملة ، والفطر الأسود والأبيض والأحمر ،  وضحكا .  ثم سأله إن كان يتنفس بصورة عادية أم على هذا النحو ، وراح يشهق ويزفر بطريقة شبه متلاحقه وأخبره بأنه غالباً مايتنفس مثلما يتنفس أمامه الآن وظهر على الطبيب  الهدوء وقال : خلينا نشوف قلبك . 
سأل الطبيب مثلما اعتاد أن يسأله كل مرة إن كان عليه أن يخلع حذاءه و رد عليه الطبيب إن لا ضرورة لذلك ، حينئذ فك أزره القميص واستلقى على السرير وكشف صدره  ، بينما جلس الطبيب على المقعد المجاور له و قلّب الأنبوبة وأفرغ منها كمية صغيرة من السائل السميك الأزرق على صدره من ناحية القلب وراح يضغط "بالمسبار" الأبيض ويحركه بقوه على هذا الموضع وحوله ، وهو يتابع شاشة العرض التي لا يراها . بعد ذلك طلب منه أن يميل إلى الجانب الأيسر وراح يضغط كما فعل فى الأول . وعندما انتهى طبع صور من جهاز الكمبيوتر وأخذها وانتقل إلى مكتبه . 
اعتدل فى جلسته وتناول قطع من القطن من الممرضة المبتسمة وجفف صدره ، ثم ألقاها فى السلة المعدنية إلى جوار السرير وأعاد قميصه إلى مكانه داخل البنطلون وجلس أمام المكتب وأعطاه قائمة العلاج القديمة ، وقال له الطبيب  أنه لم يضف له  شيئاً جديداً ورافقه حتى باب حجرة الكشف وصافحه مودعاً . 
عبر الصالة المزدحمة بالمرضى أغلبهم لا يرتدي كمامة ، و ودع الممرضه المبتسمة . كانت العيادة فى الطابق الثانى ، قرر النزول على الدرج ، متشبثاً بالسياج  النحاسى الناعم حتى غادر المبنى ، اشعل أخر سيجارة ومشى وحيداً على رصيف الشارع شبه الخالي وهو يشعر بخطوات غير متزنة التي يرجع سببها إلى ضعف الصحة أو التقدم فى العمر أو الاثنين معاً .. فى ذلك الوقت المتأخر من الليل ،  بدأ الهواء منعشاً من النافذة المفتوحة وهو يجلس بجوار سائق التاكسى الذى كان صامتاً وعندما رأى علبة سجائره مفتوحة وموضوعه أمامه ، يخرج منها فلتر أحدهم يناديه ...!
قال للسائق : ممكن سيجارة ... رد الأخير : طبعاً اتفضل . 
وأعطاه واحدة وأشعلها له ، وهو يراقب الطريق الذي كان خالياً ، وأخبره أنهم يمنعونه من التدخين ولكنه يرغب أحياناً فى تدخين واحدة فقط يومياً وراح يدخن فى صامت ونهم  ....