الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. هادي التونسي يكتب: مي زيادة

صدى البلد

هل يمكن لشخصية مثالية رومانسية صافية ان تعيش سعيدة ناجحة في عالم الواقع، و إن كانت نابغة ؟
هل يمكن ان تكون علاقات نادرة آمنة و عميقة و هوايات محبوبة مأوي لتلك الشخصية تعوضها عن عالم رمادي بعلاقات ملتبسة بخيرها و شرها ؟
و هل ينصف العالم ذكري من أحب بصدق، و أخلص بحماس، و أعطي بسخاء و نقاء، إن إنقلب عليه القدر، و تخلي عنه المريدون، و غدر به الأقرباء؟
مي زيادة إسم شهرة ماري إلياس، تلك الأديبة الشاعرة النابغة التي اتقنت تسع لغات، و كانت بصالونها الأدبي منذ قرن الأديبة الأشهر بالقاهرة،و محبوبة ارفع القامات الفكرية و الأدبية الذين حضروا صالونها، و احتوتهم بلطف و لباقة و رقة علي تباين توجهاتهم ،و دون ان ترتبط بأي منهم. هي تلك الرائدة للأدب النسوي و لتنوير و تحرير المرأة ، و التي عرف عنها عشق خلاب لتسعة عشر عاما عبر مراسلات مع الأديب جبران خليل جبران الذي عاش في نيويورك، و لم تلتق به أبدا. هي تلك التي قضت أخر سنوات عمرها في إنهيار نفسي و عزلة تعاني غدر المقربين و تخلي المحبين، و لذلك قصة و أسباب.
ولدت مي بالناصرة لأم فلسطينية مثالية محبة للثقافة و أب لبناني ميسور ماليا و متنفذ اجتماعيا، استقر بالقاهرة في أوائل القرن العشرين، و كانت له صلات أثرتها و نفعتها بأعلام الفكر و الثقافة باعتباره صاحب جريدة المحروسة. كانت مي قد درست في مدرسة راهبات و عرفت التبتل في عزلتها وسط شغف بالإطلاع علي الشعر و الأدب و التاريخ العربي و الفرنسي و إلمام بتسع لغات و هواية للرسم و الموسيقي؛ عالمها البرئ لم يعرف التصنع و النفاق، و لم يخبر المكر و الدسائس. نشأتها و ثقافتها علمتها الثقافة و التقاليد العربية و النزعة الغربية لحب الحياة و الحرية و أناقة الأسلوب و الملبس و رقة و لباقة التصرف.
بدأت مي إنتاجها الأدبي بإسم مستعار، فنظمت إشعارا بالفرنسية،ثم بكتاب باحثة البادية و عائشة تيمور و وردة اليازجي و مقالات عن احوال المرأة، و بدت مهتمة بالتنوير و التعليم للمرأة لتنال الحرية و الاستقلال من خلال أدب نسوي أثار جدلًا ،كانت من أولي رائدته، و ربطها بالسيدة هدي شعراوي. و لفتت النظر بتحررها و رقتها و جاذبيتها في مجتمع محافظ، لم يعهد عتاولة مفكريه ندية المرأة، و حينما كلفت بقراءة رسالة من جبران خليل جبران لمناسبة ثقافية، و كانت تحوي مقتطفات من كتابه الأجنحة المتكسرة ابهرتها عاطفته المتقدة و صوره الجميلة الجذابة ذات السمة الأنثوية المطمئنة. و رغم ان صالونها الثقافي الشهير جمع شتي قامات الفكر و الثقافة و الأدب الذين أحبوها كإمرأة جاذبة رقيقة جميلة دون ان يشغلوا وجدانها،الا انها لم تسلم قلبها الا لجبران، حيث جمعهما عشق روحي غير مشروط و نزعة صوفية و إشباع فكري إضافة للولع بالموسيقي  و الفن و الأدب.
و رغم انه كان لجبران في امريكا أحيانًا علاقات غرامية أخري، إلا أنه أحبها،كما كان عشقها الوحيد، و تمثل مراسلاتهما مثالًا فريدًا للغزل العفيف في الأدب العربي، يتميز بالصدق و أشواق الغربة والحكمة و الرومانسية و الروحانية العميقة المتجردة من المادية و السطحية، فكما قال جبران "ان من تحبه هو انت في مكان اخر" ،فكلاهما يعيش في الآخر،يتمثل أفكاره و مشاعره و مواقفه، و كما قالت هي ترثي وفاته عام ١٩٣١ قبل أن يفي بوعده بلقائها في لبنان "أن قدرًا ساقه إليها، و قدرًا سرقه منها، و بين القدرين فقدت قلبها". هو حب بلا أمل،لكنه يبغي الكمال ،و يتجاوز المخاوف و الألم و الحنين و الوحدة و الحيرة، حب هو البداية و النهاية، جمعهما فكرا و قلبًا و روحًا، و لم يعد لحياتها معني دونه و بعد ان فقدت والدها قبله بعام، و والدتها بعده بعام. إنهارت عصبيًا و عاشت عزلتها، دون ان تفلح في إلهاء نفسها بالدراسة و السفر. و طمعًا في ثروتها أدخلها أقاربها أعواما مستشفي عقلية في لبنان ليحجروا عليها، حتي اخرجها برلمانيون لبنانيون منها الي مصحة ثم بيت اخر، و عادت الي القاهرة بين شائعات إصابتها بالاكتئاب أو الفصام، و إنفض عنها مريدوها، و لم يحضر جنازتها عام ١٩٤١ الا ثلاثة أفراد.
قصة حزينة هي تثير التأمل، تأمل لمصير مأسوي يبدو غير مستحق أو متوقع، تأمل لشخصية ملائكية تخلي عنها من أحبوها بلا طائل، عاشت بسمو لم يشاركه و يعيه الا من عشقته و لم تره، سمو لم يعرفه من طمعوا فيها و من غدروا بها، لأنها أصرت علي إنسانيتها، و لم تلوث براءتها، أو تعكر صفو مشاعرها. قصة تبين انه لا مكان في الأرض للملائكة؛ فعاجلا أم آجلا يقضي عليهم من انتفعوا منهم، و من لم يفهموهم، أو ضاقوا بصفاء يشعرهم بالعجز و فسروه بالضعف، حتي و إن أدركوا دوافعه، قصة تؤكد أننا لا نستطيع أن نفرض شروطنا علي الدنيا، و لا أن نعاند القدر ،و نضرب عن الحياة علي أرض الواقع، بل علينا أن نرحب بالحياة بما لها و ما عليها، و الا لكنا من الخاسرين. قصة تبدد يأس من نضج من العثور علي الحبيب المناسب، فهو موجود في مكان ما و زمن ما و إن لم نعرفه، قصة تبين انه مهما كان الحب عظيما فالتعلق طريق الانهيار إن لم تحفظه الأقدار.