الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قراءة في حادث اللاعب الدنماركي كريستيان إريكسون!

شاهد العالم كله، تقريبا، حيث أنه مهتم برياضة كرة القدم، اللعبة الشعبية الأولى في العالم، شاهد اللاعب الدنماركي كريستيان إريكسن وهو يتهاوى ويسقط مغشيا عليه قريبا من راية الزاوية دون أن يكون مشاركا مع أي من لاعبي الفريق الفنلندي الذي كان يخوض مباراة مع فريق الدنمارك في يورو ٢٠٢٠.

هذا المشهد الذي شاهده العالم كله، انهمرت له الدموع وانقطعت له أنفاس المتابعين في ملعب المباراة وعبر شاشات التليفزيون انتظارا لمعرفة مصير اللاعب الذي كان بين الحياة والموت، فمنظر اللاعب وهو يتهاوى كان ينبئ بأن هناك كارثة قد حلت به، وأن حياته في خطر شديد.

احتاج العالم حوالي ساعة ونصف كانت كلها قلقا ممزوجا بالحزن يراوده أمل من بعيد، لكي يعرف مصير اللاعب، وخلال الساعة والنصف هذه كان هناك العديد من المشاهد واللقطات التي تستحق التوقف عندها وتأملها، هذه المشاهد تناولها العديد من الأصدقاء عبر منصات التواصل الاجتماعي، كان من بينهم الصديقة الإعلامية نهى رأفت التي طالبتني بتناول الموقف، وتحليله بعدما اتفق جميع الذين تعرضوا له على الرقي الذي تم التعامل به مع هذا الحادث، وإن لم نعدم أصواتا متخلفة، سنبين لاحقا مظهر هذا التخلف.

أول ما نتوقف عنده هو رد الفعل الغاية في السرعة من حكم المباراة الذي أطلق صفارته معلنا توقف المباراة في ذات اللحظة التي أشار فيها للفريق الطبي بسرعة النزول لإنقاذ اللاعب، الذي كان قد وصل إليه قبلهم قائد منتخب الدنمارك، سيمون كيير، رفيق اللاعب كريستيان إريكسن الملقى على الأرض، والذي بسرعة هائلة أنام اللاعب على جانبه الأيمن وهذا منعا لأن يبلع اللاعب المغمى عليه لسانه وقام بفتح فمه للتأكد من استمرار فتح مجرى الهواء، وما فعله كابتن الفريق كان له أولى الأفضال في إنقاذ حياة اللاعب، وهنا نتوقف قليلا لمعرفة كيف تم هذا؟ وهل كان يمكن لأي لاعب في الفريقين أن يقوم بهذا العمل؟ أم أن الذي كان يستطيع ذلك هو كابتن الفريق لأنه فقط من يملك الثقافة الطبية الأوّلية لإسعاف مثل هذه الحالة؟.
والجواب ببساطة وحتى نكون مدركين لمنظومة الحياة في الدول المتقدمة، فإن أي لاعب في الملعب أو حتى أي شخص من الجمهور كان يستطيع أن يفعل ما فعله كابتن الفريق، لأن هذه الإسعافات الطبية الأولية يتعلمها كل شخص أو بالأحرى الغالبية العظمى من سكان هذه البلاد، فليس مسموحا لأي شخص في البلدان الأوروبية الحصول على رخصة القيادة قبلما يقوم بعمل "دورة في الإسعافات الأولية" والتي من ضمن ما يتعلمه فيها ما قام به كابتن الفريق مع زميله الذي تهاوى ساقطا مغشيا عليه.
ثم نأتي للدور الغاية في الأهمية للجهاز الطبي الذي نزل إلى أرضية الملعب مسرعا، والذي كان يمتلك في الأدوات التي بحوزته كل الأجهزة التي من خلالها قام بعملية تنشيط للقلب بصدمات كهربائية، وبالفعل في غضون ما يقترب من الساعة نجح الأطباء في دب الحياة في القلب مرة أخرى، هذا الذي يعكس مدى الجاهزية للأطقم الطبية من ناحية، وعدم حاجتهم إلى الذهاب سريعا إلى المستشفى التي هي مجاورة لملعب المباراة، ولكن الوصول إليها يحتاج بضع دقائق هي التي تفصل اللاعب ما بين الحياة والموت، أما الأجهزة التي استخدمها هؤلاء الأطباء فلم تكن من الممكن أن تكون في حوزتهم ما لم يعمل العلم  على تطويرها بحيث يمكن التنقل بها واصطحابها في الملاعب وغيرها من المناسبات والمحافل المختلفة، وهو ما يعكس ما للعلم من أهمية وفضل على الإنسان، وهو ما يعكس أيضا هذا التطور العلمي الهائل في الأجهزة الطبية، والتي تقوم عليه العقول والشركات في الدول المتقدمة والمهتمة حتما بالعلم.

أما المشهد الذي أثر في الجميع فهو تلك الحلقة التي تحلّقها زملاء اللاعب الدنماركي كريستيان إريكسن حوله، لمنع كاميرات التصوير من الاقتراب من اللاعب للحفاظ على خصوصيته وهو في هذه الحال من الوهن والضعف، وهو ما بين الحياة والموت، رحمة بأسرته مرة وحفاظا على خصوصيته كما ذكرنا سابقا مرة أخرى،  هذا المشهد الذي حظي باحترام كبير من الجميع، والذي تناوله العديد من الأصدقاء بالإشادة البالغة، والذي تمنى هؤلاء الأصدقاء أن نتعلم منه في مجتمعنا وهنا أقول: إن هذا المشهد الذي قام اللاعبون به بتلقائية شديدة، لم يكن ليحدث، لو أن هؤلاء الأقوام، في المطلق، قد تخلصوا من داء التلصص، واقتحام حياة بعضهم البعض، هذا الذي لا يحدث في يوم وليلة، ولا بين عشية وضحاها، بل لا يمكن أن يتمتع به مجتمع خلال خمسين عاما، وإنما يحصل عليه بعدما يعمل على إحياء القيم العليا في نفوس أبنائه، ساعتها سوف يسلك المجتمع مثل هذا السلوك بتلقائية شديدة، وربما لا يرى سببا في مثل هذه الإشادات التي تخرج من أمثالنا الذين نريد مثل هذه القيم في مجتمعنا، حيث أنه يتعجب إن جاء الإنسان في أي مجتمع بعكس هذا السلوك. بالطبع نحن نتحدث عن الغالبية العظمى من هذه المجتمعات، هذا الذي لا ينفي بالكلية أن يسلك أشخاص غير هذا، أما الغالبية فهي تسلك السلوك الحضاري الذي يتفق مع القيم التي تربوا عليها، وأصبحت في صميم تكوينهم، هذا الذي هو في حاجة إلى عمل دؤوب لعدة عقود.

ولقد كان سلوك مصوري المباراة ومخرجها متسقا مع هذا السلوك الراقي العام، فلم نجد محاولة من مصور لما يسمى بسبق صحفي بالحصول على صورة للاعب في حالته تلك، ولم يقم مخرج المباراة بإعادة لقطة سقوط اللاعب، ولكنه ركز تركيزا هائلا على انفعالات وتفاعلات زملاء اللاعب والطاقم الفني الرياضي بالإضافة لتأثر الجماهير الذي أبكانا جميعا.

أما أعضاء فريق فنلندا فجاء سلوكهم متناغما مع هذا السلوك الراقي من كل من ارتبطوا بسبب بهذا الحادث، فخرجوا من الملعب سريعا، ووقفوا على الجانب الآخر منه، متابعين ومتأثرين ومشفقين على زميل منافس، ومتفاعلين مع الجماهير التي كانت بين الفينة والأخرى تبعث بصيحات تشجيعية للاعب لمقاومة الرحيل والبقاء على قيد الحياة، حينها تذكرت وأنا في إحدى المستشفيات لتلقي العلاج بالنمسا، فوقعت مغشيا عليّ في دورة المياه، وكنت قد نجحت قبل الذهاب في غيبوبة أن أضغط على جرس الإنذار لإسعافي، وإذا بي وأنا بين الغيبوبة والصحيان اسمع أحدهم يقول: سيد البيبة ابق هنا ابق معنا، لم أنس هذه الكلمة، وكأنه يشجعني بالتمسك بالحياة.

زوجة إريكسن

كانت رفيقة إريكسن في ملعب المباراة وشاهدته يسقط مغشيا عليه، فنزلت باكية إلى أرض الملعب، حيث سمح لها الأمن بالنزول، ولكن لم يسمح لها الحكم بالوصول إلى اللاعب وهو على هذه الحال الصعبة، فاحتضنها مطمئنا إياها قائد منتخب الدنمارك، سيمون كيير، والذي بكل تأكيد تربطه بها وبه، في أقل الأحوال، علاقة الزمالة، وهنا كان المشهد الذي عكس قمة تخلف البعض عندنا، هذا البعض الذي ترك هذا الحدث المؤلم وتلك المشاهد الحزينة، وهذه المعاني النبيلة، وتوقف عند تهدئة أحد الزملاء لرفيقة صديقه الذي هو بين الموت والحياة، ولم يجد إلا هذه الشهوانية المقيتة، وهذه الدناءة المتناهية، فأخذ هذا البعض الذي لا يرى في المرأة مهما كان الحدث جللا إلى الشهوة، ولا يستطيع أن يتصور أنه في حالات معينة لجلالها، لا يمكن للإنسان الذي يمتلك ذرة من الإنسانية أن يذهب تفكيره هذا المذهب المنحط الذي لا يفكر به إلا هؤلاء الذين لم يتطور الحيوان بداخلهم بمقدار ذرة واحدة من التطور.
ويمكننا الاستمرار في الحديث عن هذا الحادث الذي وقع للاعب الدنماركي، يمكننا الحديث عن تلك الرسائل التي صدرت عن المؤسسات الرياضية بداية من أعلى مؤسسة فيها، ويمكننا التوقف عند رسائل الرياضيين التي لم تنقطع دعما للاعب، ويمكننا التأمل في مواقف الجماهير، ليس يوم الحدث فقط، بل وما تلاه من أيام في رسائل إنسانية ملأت مدرجات مباريات بطولة الأمم الأوربية، كما يمكننا التوقف كثيرا عند المعالجة الإعلامية الراقية، كل هذا الذي يؤكد أن ما تم صدر عن منظومة متكاملة، استطاع الإنسان الحديث أن يرتقي فيها بسلم الحضارة الإنسانية.

وهنا أقول للأصدقاء الذين يتغنون بكامل موقف معالجة حادث اللاعب الدنماركي إريكسون، ويطالبون بالتعلم منه، هنا أقول لهم: هذا السلوك هو نتيجة لجهد بُذِل في تربية عدة أجيال عُمِل خلالها على التطور الإنساني، إنه سلوك طبيعي صدر بتلقائية، من كافة المنظومة ومن الجماهير، إنه لم يتم تعلمه كسلوك من موقف ما قد وقع، ولكنه سلوك يصدر عفويا نتيجة للتكوين الذي تم تنشئة الإنسان عليه.


 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط