الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الإصْلاح الحَقيقي.. والتَحْديث على النَمَطِ الغَرْبي

لقد تأثرت قيم وأخلاقيات العرب والمسلمين بالعلمانية الغربية، ونمط الثقافة الاستهلاكية، وتمت إعادة تشكيل مؤسسات الدولة في قوالب جديدة، وتبنت المؤسسات التعليمية نماذج غربية كمرجعية لها، وأضيفت مشكلات جديدة من الفوضى الحضرية وزيادة السكان في ظل تدهور البيئة، وانتشار العشوائيات، ناهيك عن التراجع في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي لتأمين متطلبات الحياة – فتم الاعتماد على الخارج في استيراد الغذاء وشهدت أحوال الصحة والتعليم مزيداً من التدهور المتواصل. وأدى ارتفاع معدل البطالة بين الشباب إلى فقدان الأمل وشيوع مشاعر الإحباط، بينما أدى فشل البيروقراطية الإدارية إلى إهدار الموارد وتراكم الأزمات ...!؟!.

 في ظل مثل هذا الإخفاق عمدت النخب الثرية إلى النأي بنفسها عن تلك الأوضاع بالإنتقال إلى تجمعات سكنية مغلقة محاطة بالأسوار – هذه التجمعات تزخر بمظاهر مختلفة للحياة تسودها الرفاهية وتُكرٍس الانفصال بينها وبين المجتمع في العديد من نواحي العمل والتعليم والتمتع بالنفوذ والجاه. كما أقدمت تلك النخب على جلب المزيد من التشوهات إلى المدن العربية والإسلامية من خلال إصرارها على تقليد كل جديد يظهر في الغرب بغض النظر عما إذا كان ملائماً أم لا – فباتت عبارة عن خليط مشوش من الطرز المعمارية للمباني – بينما تُعاني من غياب التخطيط والنظام، وتئن تحت وطأة التلوث وتزايد مظاهر الفوضى والزحام - ومع هروب الأثرياء إلى معاقلهم، يتحمل الفقراء وحدهم نتائج الفشل، ويلاقون كل أشكال البؤس في حياة يومية هي أقرب ما تكون إلى تحديث يقوم على التشويه ...!؟!.

 فالتحديث الحقيقي لا يعني مجرد استيراد سلعة أو مجموعة من السلع وطرحها للاستهلاك، ومن يريدون تحديث مجتمعاتهم عن طريق استقدام مواد الحضارة، مثلهم مثل من يقومون بشراء أشجارخضراء مثمرة من الغرب، ويعملون على غرسها كما هي في أراضيهم البور التي لا استعداد فيها للزرع والنبت – بينما يتطلب التحديث الحقيقي إنما يتطلب حراثة الأرض وتسميدها، وتزويدها بالمياه والبذور، ثم رعايتها بعد غرسها، وتطعيمها بعد أن تُنبت ليتيسر لها النمو. هذه الأشجار التي تنمو على هذا المنوال قد تستغرق عدة سنوات من المتابعة والجهد والعمل والبذل، واستعداد تدعمه إرادة تتميز بالصبر والفكر – هذا هو سبيل "التحديث الحقيقي" ولا سبيل سواه ...!؟!.

 لقد أدى الاستسلام لمحاولات التحديث التي جرت على مدى القرن التاسع عشر إلى نمط مشوه من العلاقات العسكرية والسياسية مع الغرب. وفي بدايات القرن العشرين كانت تنظيمات الإصلاح العثماني، وحكومات الإحتلال الاستعمارية قد أقدمت قبيل الحرب العالمية الأولى على إدخال مستجدات، إدارية بيروقراطية، ومبادئ تشريعية وقانونية أوروبية جديدة في المنطقة العربية، لا تمت بصلة للشريعة الإسلامية، لإدارة المجتمع على الصعيدين الإقتصادي والاجتماعي، بينما أدى الهجوم على التقاليد الموروثة والتراث الثقافي إلى مشكلات خاصة تتعلق بمفهوم الجماعة على الصعيد السياسي، كما برزت مشاعر عميقة من الخوف والقلق والاغتراب في ظل مواجهة النظام الأخلاقي الإسلامي للأفكار الليبرالية والعلمانية الوافدة – وما أدى إليه ذلك من نشوب أزمات فكرية حقيقية، وصراع ثقافي حاد بين التيارين "الإسلامي الأصولي" و"العلماني التغريبي"...!؟!.

 وتعود بداية "الشيزوفرينيا الثقافية" أو الانشقاق الثقافي بين ماهو تقليدي وما هو حديث إلى تجربة إنشاء الدولة الحديثة في عهد محمد علي باشا في مصر والشام، ومن بعده الاستعمار البريطاني والفرنسي للمنطقة – غير أن السبب في ترسيخ هذه الازدواجية في المجتمعات العربية يرجع إلى تبني النُخب الثقافية والقومية لها. كما أن رواد النهضة في مصر والعالم العربي تمسكوا بالنموذج التنويري العصري الذي لم يعد فقط هدفاً في ذاته، وإنما تحول إلى أيديولوجية لها تأثيرها الكبير على كافة التيارات السياسية من رأسماليين واشتراكيين وماركسيين- ونظر هؤلاء إلي الشخصية التقليدية على أنها نقيض الشخصية العصرية التي تدفع المجتمع للأمام - ومن ثم فقد أدت هذه الفجوة الثقافية إلى ترسيخ الشعور بالاستعلاء والانفصال عن الثقافة المحلية التقليدية وانعكست حالة الإزدواجية والإنشقاق على المجتمع – ففي مصر على سبيل المثال – ظهرت فكرة الدرجة الأولى والثانية في المواصلات العامة والمستشفيات ودور السينما والمسارح لأول مرة في ذلك الوقت– وكانت تقليداً بريطانياً – بينما ظلت المساجد مستثناه من ذلك بطبيعة الحال – حيث ترمُز إلى الأصل الإسلامي في التساوي وعدم الطبقية – فكان التقسيم الطبقي المنظم والمقنن في بداياته وافداً من أوروبا فالخبرة الاستعمارية الغربية تمثل – بكل ما سبقها من مقدمات وما ترتب عنها من تداعيات "العامل الرئيس" الذي أوجد ظاهرة الازدواجية والانقسام في المجتمع العربي والمسلم على مستوى القيم والمؤسسات وأنماط العيش ...!؟!.

 في أعقاب ذلك شكلَّت قضية العلاقة بين "الموروث والوافد" إحدى القضايا العربية الأساسية التي لم يتم حسمها حتى الآن – فقد سادها التوتر والصراع الذي أخذ أشكالاً مختلفة وأساليب متعددة. وعندما جاءت النظم التحديثية الثورية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كرد فعل لهزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين سنة 1948 – الذي عرف بعام النكبة – انتهجت هذه الأنظمة سياسة تدخل واسعة في الشئون الاقتصادية، فقامت بتأميم معظم المشروعات القائمة، وقدمت برامج على قدر من الأهمية لتحسين الأوضاع الاجتماعية المتردية، في مجالات العمل والتعليم، وكان من شأن سياسة التدخل هذه أن تمت عملية تفكيك سريعة للنظام المؤسسي القديم- وبينما كانت الحكومات الاستعمارية تتعامل برفق فيما يتعلق "بالمسائل الاجتماعية" – حيث اهتمت أساساً بالحفاظ على سلطتها ولم يشغلها تغيير المجتمع...!؟!.

 بينما أوغلت أنظمة ما بعد الاستقلال في عملية التحديث، وانتهاج سياسة التغريب بصورة شاملة. لكنها في سعيها إلى التحديث وقعت في تناقضين أساسيين: يبدو "التناقض الأول"، واضحاً في محاولة تقليد النموذج الغربي للتقدم في صورته المادية فقط – دون الأخذ في الاعتبار بروافده الإنسانية الأخرى في الحرية والعدالة والديمقراطية – فتم التركيز على قضية "التنمية الإقتصادية" بشقيها الاشتراكي والرأسمالي، لكنها انتهت إلى فوضى من الحداثة المشوهة، وفشل ذريع في إحداث نهضة حقيقية، بينما يكمن (التناقض الثاني) في الإصرار على تجاهل واستبعاد رافد "الإسلام الحضاري" وحرمان عملية التحديث من دوره الحيوي في تحقيق النهوض والاعتماد على الذات، وأدى فشل أنظمة ما بعد الاستقلال في تجربة التحديث على النمط الغربي إلى تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم العربي الذي بات نهباً لجشع سماسرة الداخل، وأطماع وكلاء الخارج الذين تمكنوا معاً من جعله مستودعاً لنفايات الغرب، و"رُكاماً لمخلفاته الصناعية، في ظل توسع غير مسبوق في الاستهلاك، وفي إطار التبعية لنظام السوق الغربي، دون التفات إلى تداعيات هذا النظام ومآسيه، وما يجلبه من كوارث وأزمات ...!؟!.

 ويبقى الأمل في إمكانية حدوث "إصلاح حقيقي" – إصلاح من الجذور وليس مجرد تغيير للقشور – لكن ذلك يتطلب قدرة كبيرة على التمييز والاختيار بين "جديد لا ضرر فيه" وبين قديم يمهد الطريق ولا يعوق التقدم – فالإصلاح الحقيقي يقوم على الجمع والتضافر بين النافع والمفيد من التراث القديم والوافد الجديد – على حدٍ سواء ...!؟!.                                                       

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط