دائما ما يثير إعجابي المغرد خارج السرب ، يمتلك قراره وحريته ، يصبح أكثر إتساقا مع ذاته .
كل من يدور في فلك مركزية ما ، فإنه حتما تابع مسلوب الإرادة ، جزءا من قطيع ، ترسا في آلة ، يعمل عملها جبرا ، لا يمتلك خاصية الرفض !
أنا هنا لا أدعو إلى الإعتزال و العزوف عن الناس ، لكن لو أن الإنغماس في السرب ينال من إستقلالية الإنسان ، تمسي العزلة عن السرب واجبا حتميا .
و لهذه العزلة مثالا في مستواها الباهر .. مشاهد عايشتها بنفسي لأكثر من ثلاثين عاما ..
في مقامه الهادئ .. بعيدا عن صخب الناس إصطفى إقامته عما يقارب الأربعين عاما ، حتى لقي الله مسترخيا راضيا مكتفيا من الدنيا بما أصابه من إقلال ، دونما تنال من صفو نفسه و سلامة صدره و براءة بدنه و عفة لسانه و ابتسامته التى لا تخطئ طريق القلوب .
إنزوى عن الدنيا ، ففرت منه مهابة و يأسا .
ترك دنيا الناس للناس ، لم ينل منها إلا ما يحفظ عليه عافية و وجوده .
على أن هذه الحياة البسيطة لم تصنع منه إنسانا ساذجا ، بل حالة إنسانية مختلفة ، بكل ثراءها و عنفوانها .
كان لا يشغل أوقاته بمهاترات ، لا يخض فيما يخوض فيه الناس ، لا يوغل في أحد ، يترك الجميع و شأنه ، لا يبالي بمن غدا أو راح ، إذا أردنا أن نري قول النبي صلى الله عليه
و سلم : " من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه" .
إذا أردناه محققا في رجل ، ففي هذا الرجل تحديدا .
كان مما يلفت انتباهي ، عنايته بالمكان ، و حرصه أن يضع الأشياء موضعها دون تراخي ، و هو الذى تجاوز السبعين ببضع سنين ، كأنه مخرج سينمائي قدير ، يعرف زاوية التصوير ، يهتم بأدق تفاصيل الكادر ، يولي عناية فائقة بالديكور ، ليخرج العمل في أبهى صورة .. لا يمكن أن ترى شيئا يشذ عن مكانه ، كل شيئ على النسق الذي أراده ، ذواق لكل مباهج الحياة بلا إسراف ، كان أبعد ما يكون عن الغلو ،
عفي ، متوازن الجسد ، قصد في طعامه و كلامه و منامه ،
طويل الصمت و الفكرة ، عميق التأمل و العبرة ، خصيم الجدال و المشاحنة ، عامر العقل متوقده ، يعرف كيف يروض نفسه و متطلباتها ، فهو يمتلك إرادته كاملة .
لا يستوحش غني ، و لا يخشى فقرا ..
شخصية من نسيج متفرد ، لا يستقم معها و لا يصلحها سوى الخلوة . و لا يتوهج إلا في العزلة .
رحم الله الراعي الرسمي لأكاديمية الجمال .
رحم الله والدينا .
-