الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

«رضوى عاشور» وقطعة من أوروبا

عن محاولات استنساخ النموذج الغربي في مساعي التحديث تنقلنا الروائية المبدعة "الدكتورة رضوى عاشور" في روايتها البديعة "قطعة من أوروبا" نقلةً هامة من المؤثرات الغربية ثقافياً و مُجتمعياً و ما أسفرت عنه من تبعية سياسية و اقتصادية إلى الجانب الآخر المُتمثِل فى التأثير المادى من خلال إقامة مدن جديدة على نمط المدن الغربية لتتوارى الرؤية الإسلامية في العمارة و البناء بكل ما فيها من روعة و إبداع - لأنه يجب على من يتطرق لدراسة أوضاع عالمنا العربي و الإسلامي الراهنة أن يعود إلي هناك حيث "درس التاريخ" منذ ضياع الأندلس و سقوط المنطقة العربية فيما بعد – وهكذا فعلت الكاتبة المبدعة  عندما نشرت روايتها المؤلمة "ثلاثية غرناطة" من قبل و كيف أن داء الفرقة و التشرذُم هو ما يؤدي إلى كارثة ضياع الأوطان و انهيارها في نهاية المطاف، و مع هذا لم يتعلم العرب الدرس من مآسي الماضي، و باتوا يعيشون الآن أجواء الأندلس الثانية...و هكذا من ضياع إلى ضياع...!؟!.

 اعتمدت "الدكتورة رضوى" أسلوباً جديداً في السرد الروائي يمزج بين وقائع التاريخ و الرؤى الأدبية – فقدمت رؤيتها على لسان بطل الرواية الذي قام "بدور الناظر" أو "الرائي" – الذي يروي أحداثها ووقائعها من خلال المشاهدة أو عبر ما وعته الذاكرة و اختزلته من حكايات، وما قدمته الوثائق من حقائق لتسجيل حركة التاريخ و ما اشتملت عليه من أحداث منذ بداية احتكاك العرب و المسلمين بالأوربيين في الربع الأخير من القرن الثامن عشر و حتي الآن. لتكشف عن حالة التردي و الاختراق التي عرفتها المنطقة العربية – و مصر في القلب منها – منذ قدوم نابليون بحملته إليها في ظل ضعف و أُفول نجم الإمبراطورية العثمانية، بما أغرى القوى الأوروبية الصاعدة و المتصارعة عليها بهدف إخضاع المنطقة لهيمنتها و احتلالها...!؟!.

 مع مجئ حملة "نابليون بونابرت" إلى مصر يسبقه إليها حلمه بتكوين امبراطورية الشرق الذي فشل جرَّاء المقاومة الشعبية في الداخل و الحصار الإنجليزي من الخارج. ليأتي رد الفعل متمثلاً في مشروع "محمد علي" كمغامر قادم من ربوع السلطنة العثمانية لمواجهة اضطراب الأوضاع في أراضي المحروسة بعد انكسار الفرنسيين – و لم يكُن مشروع الباشا إلا "مشروعاً معاكساً" لما كان يحلم به نابليون – لأن أهدافه كانت تتعلق بمحاولات تحديث الدولة العثمانية،  و دفع دماء جديدة في شرايينها المتيبسة بفعل الانسداد و الجمود – و أيضاً لأنه استلهم "النموذج الغربي" فاستعان بخبرات الفرنسيين في هذا المجال – و ما أن أصبح يمثل خطراً حتى تحالفت الدول الأوروبية ضده – لا سيما إنجلترا و روسيا – و تخلي فرنسا بدورها عنه بعد أن أقلقها طموحه الطاغي، فتركته لمصيره يواجه ما لاقاه نظيرهُ على الضفة الأُخرى من المتوسط "نابليون" الذي مات وحيداً في جزيرةٍ نائية...!؟!.

 على نفس المنوال – و تكرار ذات الأخطاء – لم يستفد حفيد الباشا "الخديوي إسماعيل" من مأزق جده – فانتهى نهايته – بل زاد عنه أنه مات منفياً في إحدى عواصم الغرب التي استلهمها لإقامة مشروعه – فقد سعى "الخديوي إسماعيل" إلى جعل القاهرة على مثال باريس أي "قطعة من اوروبا" لكنه سقط في براثن الديون و ما أدت إليه من زيادة النفوذ الأجنبي و التدخُّل في شئون البلاد و إدارتها، لينتهي امرها بالاحتلال. و ما أن وقعت مصر في قبضة الاحتلال حتى قدمت إليها وفود من المغامرين الأوروبيين الباحثين عن الثروة و النفوذ و من بينهم عدد كبير من اليهود المؤيدين للمشروع الصهيوني – و تمت لهم جميعاً السيطرة على اقتصاد البلاد و نهب مواردها و إذلال مواطنيها...!؟!.

 وعن "التأثير اليهودي" في مجرى الأحداث على جانبي المتوسط، سارت الكاتبة في مسارين متوازيين عبر تتبعها لنشوء عائلة "روتشيلد" في أوروبا، و نفوذها الواسع هناك في مجالات الثروة و السلطة...ومسار عائلة "يعقوب قطاوي" الجد الأكبر للعائلة الذي أتى من حلب إلى مصر في عهد "محمد على" حيث أوكل إليه العديد من المسئوليات في مجالات المال – لا سيما إشرافه علي مصلحة "صك النقود" و تنظيم الأسواق و جباية الضرائب و الجمارك و غيرها – و مع جيل الأبناء و الأحفاد، كبرت العائلة و تشعبت بالمصاهرة مع وجهاء اليهود الاخرين، لتتضاعف ثرواتهم بصورة ملحوظة مع مجئ الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي زاد من نفوذهم. و سرعان ما بدأت عملية تفرنج النخبة اليهودية فتغيرت اللغة العربية و التركية من الآباء إلي اللغة الفرنسية مع الأبناء والأحفاد، و سار في ركابهم أبناء النخبة المصرية من ملاك الأراضي و الأعيان...و هنا تُشير الكاتبة إلي مدى ارتباط أبناء الجالية البهودية بالمشروع الصهيوني في فلسطين – وكيف أن إحدى حفيدات "قطاوي" باشا كانت ترأس الفرع المصري من التنظيم النسائي التابع للمنظمة الصهيونية العالمية، و تُشرِف على أنشطة إقامة الحفلات الخيرية لجمع التبرعات لصالح التنظيم في محلات "جروبي" و فندق "شبرد" الشهير...!؟!.

 و ترصُد الدكتورة "رضوى عاشور" في روايتها الهامة – نشوء الحركة الوطنية في مصر وصولاً إلي قيام ثورة يوليو بعد سنوات قليلة من نكبة فلسطين، و وقوع القائمين عليها في أخطاء لا تُغتَفر، أدت إلي انهيار أحلام القومية العربية، فتلاشت شعارات الوحدة و الاستقلال – لتستمر المنطقة العربية في تبعيتها للغرب – تقول "الكاتبة" في شعور بالأسي... و في إيحاء شديد لما نحن فيه "...الواقع مريض...و المجتمع تتوارى فيه القيم...و الإنسان يختزل سعيه في الحياة إلي مجرد تلبية غرائزه لأحط الأشكال عنفاً و فجاجة..." هذا واقع لا نريد الاعتراف به – ومع ذلك لازلنا منشغلين بمشروع "قطعة من أوروبا" رغم أنه مشروع قديم و فشل و انتهينا... فأمريكا قطعة من أوروبا و تحمل بذرتها و تواصل فكرتها...و إسرائيل بنت بطنهما...و الثلاثة يفتحون النار علينا..." ...و علي الرغم من هذا فقد ذهب "الضباط الأحرار" الذين قادوا ثورة يوليو إلى أوروبا التي دمرتها الحرب، و تطلعوا إلى مبانيها الكبيرة التي تُشبِه "عُلَب الكبريت" المتطابقة – ليقوموا ببناء "مدينة نصر" و تعميم معمارها في ربوع البلاد – مُتجاهلين النظر و الاعتبار لما قام به البارون الأجنبي – عندما أقام "حي مصر الجديدة الراقي علي الطراز الإسلامي" والذي تعرض بدوره للإحلال و التشويه ببنايات الحديد و الأسمنت...!؟!.

 "الرواية" تنكأ الجروح و تتناثر علي صفحاتها "أزمة الهوية" و ما تُثيره من إشكالات الانتماء و الدين و القومية و الأقليات و غيرها – بدايةً من الإشارة إلى تمثال "أبو الهول" الرابض علي حدود القاهرة ... وصولاً إلي مشروع "محمد علي" و حلم حفيده "إسماعيل" جعل مصر قطعة من أوروبا... ومن احتلال الإنجليز لها وقدوم شراذم الأجانب إليها و استقرارهم فيها...و من ثورة يوليو و فشل مشروعها القومي في تحقيق أهدافها – حول أحلام الوحدة و الاستقلال – لنصل إلي المشهد العربي الراهن بما فيه من تشرذُم و تمزُّق و اقتتال...ومن وجهة نظرنا فإن هذه الرواية كانت مقدمة لعدد من الأعمال الروائية الهامة تأتي في مقدمتها رواية "الحُب في زمن العولمة" للروائي الأردني (صبحي فحماوي) – التي رصدت ما آلت إليه المدن العربية من تلوث و انهيار – من جرَّاء المحاولات الفاشلة الرامية إلي جعلها "قطعة من أوروبا" متجاهلين روح هذه المدن و تقاليد شعوبها – وتراث مبدعيها علي امتداد تاريخها...!؟!.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط