الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمود سعد دياب يكتب: «أيا صوفيا».. شاهدة على امتطاء الدين لأهداف سياسية

صدى البلد

تابعت كما الكثير قصة تحويل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان متحف أيا صوفيا في اسطانبول إلى مسجد، في تحد صريح لمشاعر الأخوة المسيحيين ومصادرة لحقهم بإلغاء الكنيسة التي كانت موجودة ألف سنة في عهد البيزنطيين، وحولها السلطان العثماني محمد الفاتح إلى مسجد ثم أعادها مصطفى كمال أتاتورك لكن كمتحف يضم مسجد وكنيسة بعد إزالة ما قام به آل عثمان من طمس للوحات الجدارية التي كانت تزين جدرانها بصور القديسة المصرية صوفيا وبناتها الثلاثة، مع صور السيدة مريم العذراء وابنها السيد المسيح.

ما دفعني لكتابة هذا المقال هو التهليل من جانب البعض من المحسوبين على تيارات الإسلام السياسي، والفرح بهذا الانتصار الزائف الذي حققه السلطان الجديد أردوغان، ولو أننا تتبعنا تاريخ الإسلامويين لوجدنا أنهم دائمًا ما يحقرون من الأخر أي شريك الوطن المختلف معهم في الدين ويتعمدون إهانته وقت قوتهم، ويهادنوه وقت ضعفهم، وإذا نظرنا للأمر بموضوعية نجده استخدامًا جديد للدين من شخصية براجماتية مثل أردوغان لتحقيق انتصار سياسي يضمن له الفوز في الانتخابات المقبلة سواء البلدية أو النواب ومن ثم الرئاسة، وهي الانتخابات التي خسرها في استانبول مؤخرًا، فكيف يستقطب الناخب ويدغدغ مشاعره إلا من خلال انتصار وهمي للإسلام والمسلمين، فضلا عن تسويق صورته خارجيًا على أنه زعيم للعالم الإسلامي وتبرير جرائمه في سوريا والعراق وليبيا تحت هذا الزعم.. 

لم يسأل أحد نفسه ما الذي سيعود على الإسلام والمسلمين من وراء تحويل أيا صوفيا إلى مسجد؟ .. هل سيدخل أصحاب الديانات الأخرى أو اللادينيين للإسلام؟.. أم أن المساجد قليلة في استانبول لدرجة أن أفواج المصلين ستندفع للصلاة في المسجد بمجرد افتتاحه؟ .. حقيقة إن صمت أردوغان وعدم إقدامه على تلك الخطوة طيلة 18 عامًا قضاها في السلطة بين رئيس لبلدية استانبول حتى وصل لرئاسة الدولة، سببه أنه لم يكن بحاجة إلى حشد شعبوي انتخابي أو ترقيع لصورته المهترئة الممزقة أمام العالم بعدما صال وجال بمليشياته وأسلحته في دول عربية ناهبًا ثرواتها مشردًا لشعوبها.

خطوة أردوغان تلك ليست انتصارًا للإسلام كما يرى البعض، فالإسلام لم يأمرنا بمصادرة كنائس ومعابد الديانات الأخرى ونحولها إلى مساجد، وإذا نظرنا للمسلمين الأوائل نرى أنهم لم يحولوا كنيسة القيامة بالقدس الشريف إلى مسجد، كما لم يحولوا كاتدرائية الإسكندرية عندما فتحوا مصر إلى مسجد، ولكن لأن قبيلة آل عثمان لم يكن لها نصيب من الإسلام إلا الإسم فكان من الطبيعي أن تقوم بأي شيء باسم الدين الإسلامي.

إن خطوات أردوغان لتثبيت دعائم حكمه مستغلا المساجد لم يبدأ في حالة أيا صوفيا فقط، لكنه على مدار سنوات حكمه افتتح عدد كبير من المساجد في أوروبا وروسيا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، والهدف وفق العديد من المراقبين تعميق التأثير التركي في الجاليات المسلمة في تلك الدول وأيضًا مدّ نفوذها إلى خارج رقعتها الجغرافية وكسب الحلفاء عبر تعميق الصلات مع المجتمعات المسلمة حول العالم، في محاولة لاستعادة روح الإمبراطورية العثمانية، وبفضل هذه الدبلوماسية، تمكّن طيب أردوغان من توسعة نفوذه في أوساط الشتات التركي في أرجاء أوروبا، فخطب الجمعة الأسبوعية هي ذاتها التي تُلقى في المساجد التركية، والدروس الدينية أيضًا هي نفسها.

هل سيرضى من هللوا لأردوغان وانتصاره الوهمي عندما يقرر بنيامين نيتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني هدم المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين لإقامة الهيكل المزعوم؟.. وهل سيفرح هؤلاء إذا كان رد فعل العالم المسيحي بعمليات قتل وطعن مثلما حدث العام الماضي بأحد مساجد نيوزيلاندا؟، أو تحويل مسجد بمدينة أوروبية أو في أمريكا اللاتينية أو حتى آسيا لكنيسة؟، هل هذه سماحة الإسلام التي أمرنا بها الحبيب المصطفى؟، ثم إن مثل تلك الخطوة ستشجع اليمين المسيحي المتطرف إلي اتخاذ أساليب شرسة في إضطهاد المسلمين بكل مكان.. هل يعلم البعض ممن هللوا وأقاموا الأفراح أنه بعد قيام محمد الفاتح بتحويل أيا صوفيا إلى مسجد، رد الغرب المسيحي بتحويل معظم مساجد الأندلس إلى كنائس في أعقاب سقوط الدولة الإسلامية هناك؟..

إذا نظرنا في التاريخ سنجد أن الدولة العثمانية لم تكن دولة الخلافة الإسلامية، ولم يكن مؤسسوها مسلمون من الأصل إلا في مراحل لاحقة، وعندما أسلموا قرروا اتخاذ الدين مطية لتحقيق أهدافهم التوسعية، فمثلا السلطان الغازي سليم الأول عندما اعتدى على دولة المماليك في مصر والشام والحجاز، استصدر فتوى من "شيخ إسلام دولته" بأن حرب المماليك العبيد وقتلهم واجب وحرب المصريون والشوام وقتلهم واجب لأنهم ارتضوا أن يتولى أمرهم عبيد ويزوجون نسائهم منهم بل ويطبعوا لفظ الجلالة على العملة!.. لا تتعجب عزيزي القارئ فهكذا مر أكثر سلاطين العثمانيين دموية ووحشية لكي يقتل ويسرق قوت الغلابة ويدمر قرى ومدن بأكملها بل ويفرغ الدولة من عمالها المهرة لبناء استانبول!.

بداية لو تتبعنا نشأة قبيلة آل عثمان نجد أنها إحدى القبائل التركية القادمة من منطقة وسط آسيا وتحديدًا من المنطقة الممتدة من شينجيانج شمالي غربي الصين إلى بحر قزوين مرورًا بصحاري وسهوب كازاخستان، ولعل هذا يفسر الطبيعة الشرسة لأفراد القبيلة القائمة على الترحال والقتال لاكتساب الأرض، فيما نسب بعض خبراء التاريخ الوحشية التي تعامل مقاتلي القبيلة في الحروب المستمرة التي خاضوها منذ رحيلهم من مكان نشأتهم حتى وصلوا هضبة الأناضول إلى وجود عرق مغولي في أصولهم، ومن المعروف عن المغول وحشيتهم وساديتهم في سفك الدماء والتمثيل بجثث ضحاياهم، ذلك السلوك الشاذ والغير شريف الذي استمر مع إنشاء الدولة العثمانية وبعد استقرارها ووصولها لمرحلة السيطرة مع خصومهم وجيوش الدول التي يحتلونها حتى مع عامة الناس، وبرز الاعتزاز بالأصل المغولي في بعض الأوقات مثل إطلاق السلطان العثماني على نفسه لقب «صاحب كيران» أو «سلطان البرين وخاقان البحرين» وهي الألقاب التي أطلقها على نفسه السلطان المغولي تيمور لينك الذي حكمت دولته منطقة أسيا الوسطى بالكامل وهضبة الأناضول والعراق وإيران والهند في فترة من الفترات، فضلا عن لقب «باديشاه» وهو لقب ملكي من اللغة الفارسيّة مكوّن من كلمة بادي أي السيّد وشاه يعني الملك.

حقيقة لا أملك سلطة إصدار حكم بالكفر أو الإيمان على أحد، لكن هناك مصادر تاريخية أكدت على وثنية قبيلة آل عثمان، وهنا يتساءل البعض كيف تكون وثنية واسمها على إسم الخليفة الثالث عثمان بن عقان رضي الله عنه.. تقول المصادر التركية وتحديدًا المؤرخ والباحث محمد فؤاد كوبلي إن أصلها وثني وظلت كذلك حتى سليمان شاه جد عثمان ووالده أرطغرل ثم أسلم الإبن أوصمان «اسم له أصل تركي مغولي» بعدما تزوج ابنة شيخ صوفي وجعله مفتي فيما بعد عندما أسس الدولة وغيّر اسمه إلى عثمان، وهو أمر يفزع الكثير من محبي عودة ما أسميت بدولة الخلافة العثمانية رغم أن ذلك ليس سبة أو نقيصة، فأكم من صحابي في عهد الرسول الأكرم كان وثنيًا ثم أسلم وحسن إسلامه، ولكن لأن التاريخ يكتبه المنتصرون فإن مؤرخوا الدولة العثمانية نسبوا لأرطغرل ووالده سليمان شاه وإبنه عثمان ما ليس فيهم، وكتبوا تاريخ مزور يتغنى به أردوغان حاليًا من خلال سلاسل مسلسلات أرطغرل لتبيان أنه كان يدافع عن الإسلام ويعمل على نشره لكن الدين الحنيف منه براء، فإن حروبه هو ووالده قامت على أساس اقتصادي بهدف توفير العيش الكريم للقبيلة، حتى منحه السلطان السلجوقي حق إقامة إمارة على الأطراف بين الدولتين السلجوقية والرومانية ثم تحولت حروبه كي تستهدف التوسع وبسط السيطرة مستغلا قيام التتار بإنهاء دولة السلاجقة التركية أيضًا وقرب أفول نجم الدولة البيزنطية التي كانت توصف بأنها رجل أوروبا المريض، فحقق الاستفادة من الدولتين وبسط سيطرته على الأناضول حتى انتهز السلطان الرابع محمد الفاتح الأوضاع الفوضوية في القسطنطينية ودخل إليها فاتحًا لكي يضمها إلى دولته.

إن السلاطين العثمانيين على مر التاريخ قد استخدموا الدين لتحقيق أهداف سياسية، ولم تكن وقتها فكرة الخلافة موجودة في أذهانهم بقدر ما كان يعتني السلطان بالألقاب السلطانية الأخرى التي تضفي عليه القوة أو لقب خادم الحرمين الشريفين الذي يضفي عليه الشرعية الدينية، وهو أمر يوضحه المؤرخون بأن فكرة الخلافة انتهت مع سقوط الخلافة العباسية باجتياح المغول بغداد عام 12250 ميلادية، وتحولت إلى فكرة رمزية قدمتها دولة المماليك في مصر والشام والحجاز تمثلت في استضافة شخص من العائلة العباسية الحاكمة بالقاهرة كخليفة «رمزي» يبارك حملات الجيش والسلطان الجديد وخلافه كنوع من التكريم لدولة الخلافة العباسية المنتهية، لكن فكرة الخلافة استخدمت فقط في عهد السلطان عبد الحميد الثاني عندما دخل في صدامات مع الإمبراطورة كاثرين قيصر روسيا ووقعت اتفاقية بعد حروب طويلة اقتضت بأن تحمي الأخيرة المسيحيين الموجودين على أراضي الدولة العثمانية، فرد عليها بأن خلع على نفسه لقب خليفة المسلمين، ولكنه لقب سرعان ما سقط مع خلعه من الحكم.

المثير أن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمون، قرر في عام 1928 أن يستدعي نفس الفكرة التي انتهت صلاحيتها قبل ألف عام، وأكد أن هدف جماعته استعادة دولة الخلافة الإسلامية التي انهارت بانهيار الدولة العثمانية على حد زعمه، مواصلا سياسة آل عثمان في استخدام الدين لتحقيق أطماعهم السياسية الغير مشروعة أو حتى المشروعة التي لا يستطيعون الوصول إليها إلا بتلك الطريقة، لذلا فلا عجب إذا رأينا تركيا الحديثة تستعين بالدين كسلاح أيديولوجي لتوفير غطاء تبريري لمواقفها السياسية والعسكرية، بل تتجاوزه إلى توظيف جماعات الإسلام السياسي المتباينة، كما الحال في عملتَي "درع الفرات" و"غصن الزيتون"؛ إذ ترددت الأدعية من خلال الخطباء في المساجد ضدّ الأكراد في تركيا، وتلا الأئمة في الصلوات سورة "الفتح" وهي نفس السورة التي تليت في أول صلاة جمعة في آيا صوفيا بعد تحويله من متحف إلى مسجد، وكأن هذا أو ذاك فتحًا ونصرًا إسلاميًا مبين.

إن الكنيسة الأشهر والأكبر في الشرق؛ أقامها في الأساس الإمبراطور قسنطنين تكريمًا للقدسية صوفيا التي قتلها الإمبراطور الروماني أدريانوس (117 – 138 ميلادية) وبناتها الثلاثة لتنصرها بالمخالفة لعبادة الأوثان السائدة في الدولة وقتذاك، ليس ذلك فقط ولكنها وبناتها إيمان ورجاء ومحبة عملن على التبشير بالديانة المسيحية في مدينة البدرشين المصرية، وأمام عامة الناس تم تعذيب الأربعة وإعدامهن، ولما سمع الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بذلك أمر باستقدام جسدها ورأسها المفصولة وأقام لها تلك الكنيسة المنيفة ودفن فيه جثمانها كي تحل بركتها على المكان، وتحتفل الكنيسة المصرية في 5 من شهر توت كل عام بالتقويم القبطي بذكرى استشهادها.

إذن فعلى مستوى التاريخ فإن أيا صوفيا مصرية فأي تاريخ يتشدق به الداعون لعودة دولة الخلافة العثمانية.. هذا التاريخ الذي كان شاهدًا على سلسال طويل من الدم والانتهاكات وسرقة العهدة النبوية المكونة من المصحف العثماني وسيف الرسول وزيه.