الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مسارات جديدة لسياحة التراث


تمتلك القاهرة تراثا إسلاميا فريدا يؤهلها لاستقبال ملايين الزائرين سنويا لرؤية مكونات الحضارة الإسلامية التي تنعم بها مصر كأحد المحطات الرئيسية في العالم الإسلامي القديم إلى جانب إسطنبول وطهران وقرطبة وبغداد ودمشق ونيودلهي وغيرها من البلاد التي شهدت تفوق هذه الحضارة التي تخطت حدود جغرافيا المكان دون غيرها من الحضارات.

وبالنظر إلى هذه البلدان – باستثناء تلك التي تعاني ويلات الدمار والخراب في العراق وسوريا - نجد أنها قد استفادت من هذا التراث على الوجه الأكمل اقتصاديا وحضاريا على نحو أفضل كثيرا مما يمر به حال التراث الإسلامي في مصر الذي لا يراه ولا يعرفه سوى العاملين بهيئة الآثار والباحثين المتخصصين في مجالات الآثار والتراث الإسلامي.

فلقد شهدت مصر على مدار أربعة عشر قرنا من الزمان – هي العمر الفعلي للحضارة الإسلامية – دويلات إسلامية متعاقبة وتاريخا إسلاميا عريقا منذ بداية دعوة النبي – محمد صلى الله وعليه وسلم - في الجزيرة العربية ومبعوثيه إلى حاكمها إلى أن فتحها عمرو بن العاص في مستهل العقد الثالث من القرن الأول الهجري، ثم صارت ولاية أموية لها ثقلها في العالم الإسلامي الوليد آنذاك، ثم ولاية عباسية خالصة في العصر العباسي الأول إلى تبعية اسمية للخليفة العباسي في بغداد في عصر نفوذ الأتراك، وحُكم على الأرض باستقلالية عنه كما كان الحال في عهد الطولونيين والإخشيديين.

ثم صارت فاطمية قرابة قرنين من الزمان إلى أن دخلها صلاح الدين الأيوبي بصحبة عمه أسد الدين شيركوه ثم صار وزيرا في عهد الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين، ثم مؤسسا دولته الأيوبية، التي انتهت باستعانة السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب بسلالة المماليك الذين تمكنوا من القفز على السلطة من خلال شجرة الدر ليحكموا البلاد قرابة الثلاثة قرون في دولتين رئيسيتين، كما اتفق جمهور المؤرخين على تسميتهما المماليك البحرية والمماليك البرجية، ثم كان دخول العثمانيين مصر على يد سليم الأول في 1517م بعد موقعتي مرج دابق والريدانية.

كل هذه الأسر والحقب التاريخية خلفت تراثا كافيا لاستقطاب البشر أينما كانوا وأيا كانت عقائدهم وثقافاتهم، والأمثلة واضحة وجلية في أنحاء المعمورة؛ فها هي قرطبة عاصمة الدولة الأموية في الأندلس في القرن الرابع الهجري، يزور مدينة الزهراء فيها التي بناها الخليفة الناصر عبد الرحمن الثالث لجاريته الزهراء آلاف الزائرين من كل حدب وصوب وتسجل معدلات عالمية من حيث عدد زائريها، كذلك مسجد قرطبة الجامع أحد أهم معالم الأندلس، وفي غرناطة قصر الحمراء خير شاهد على النجاح المبهر لسياحة التراث الإسلامي، وفي إسطنبول حدث ولا حرج عن مسجد أحمد الثالث ذي القباب الدائرية توأم مسجد محمد علي في قلب القاهرة، وكذلك متاحف التراث والفنون الإسلامية في أنقرة وكونية وغير ذلك من الأمثلة كثير.

ويتنوع التراث الإسلامي في مصر ما بين عمارة إسلامية ظهرت في شكل مساجد وجوامع وزوايا وبيوت وأسبلة وبيمارستانات وخانقاوات وتكايا وقصور شاهدة على عظم هذه الحضارة، وبين متاحف تعج بالعديد من كنوز التحف التطبيقية كالخزف والنسيج والزجاج والمعادن والخشب وغيرها مما يزخر بها متحف الفن الإسلامي في وسط القاهرة، والذي يُصنف على أنه أكبر متحف مغلق للفنون الإسلامية في العالم.

وهاهي آلاف المخطوطات المدفونة في أدراج ومخازن دار الكتب المصرية، التي تصل إلى ستين ألف مخطوط بلغات مختلفة بين الفارسية والعربية والتركية بعضها يحتوي على منمنات بديعة تحكي تاريخ الأسر الفنية المختلفة بداية من المدرسة العربية للتصوير في بغداد والموصل والمغرب والأندلس، مرورا بالمدارس الإيرانية التيمورية والصفويتين الأولى والثانية والتركمانية والمظفرية والجلائرية ومدارس بخاري وسمرقند، وانتهاءً بالمغولية الهندية والتركية العثمانية.

كل هذا الزخم التراثي ويأتي الزائر إلى مصر وبرنامجه يخلو من آثارنا وتراثنا الإسلامي، اللهم إلا جامع محمد علي وفي بعض الأحيان – على استحياء - جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة، فيما يمثل لغزا كبيرا حول الإصرار على تطابق مسارات السياحة الثقافية الوافدة وبقائها دون تطوير أو تحديث فيما يصيب سياحة التراث بالرتابة والملل.

ومن الأفكار التي يطبقها الجنوب الإسباني - أو ما يعرف بالاتحاد الأندلسي- باحترافية في مجال سياحة التراث وتحقق نتائج إيجابية ملموسة على الأرض للاستفادة من التراث الاسلامي التي تمتلكه هي فكرة تطبيق مسار محدد للسائح يماثل المسار التاريخي للأثر، ما يخلق حالة من الود والألفة بين الزائر والتراث.

والأمثلة كثيرة للتطبيق عليها بين آثار القاهرة، مثل خلق مسارات تراثية جديدة كالمسار الفاطمي، ويشمل زيارة الآثار الفاطمية مع مراعاة التدرج التاريخي لإنشائها من الأقدم للأحدث، والمسار المملوكي ليشمل قرافة المماليك "المنسية" ومساجد سلاطين المماليك، وعلى رأسها هرم الآثار الإسلامية الشامخ جامع ومدرسة السلطان حسن في ميدان صلاح الدين، كذلك تطبيق مسارات اليوم الكامل سواء في شارع المعز لدين الله وهو أكبر متحف مفتوح في العالم كله، كذلك "مسار العواصم الإسلامية"، الذي يبدأ من مدينة الفسطاط التاريخية عاصمة الفتح الإسلامي وما تلتها من عواصم لاحقة كمدينة العسكر "المدبح حاليا" ومدينة القطائع "بجوار حي السيدة زينب حاليا والقاهرة القديمة".

في السياق نفسه، يُمكن خلق ما يٌعرف بالمسار الوثائقي وهو يشمل رحلة للسائح في بحر ما نمتلكه من كنوز المخطوطات الإسلامية وزخارفها ومنمنماتها والبرديات العربية، التي تخرج تماما وكليا من حسابات صٌناع السياحة في مصر والقائمين عليها بل هي أساسا خارج سلطة وزارة الآثار، حيث تشكل تبعيتها لوزارة الثقافة عائقا نحو تطويرها والاستفادة منها سياحيا.

كما يمكن الاستفادة من تطبيق هذه المسارات على المستوى التاريخي مثل عمل رحلات ثقافية سياحية تبدأ من مدينة العريش في شمال سيناء "بعد استقرارها أمنيا"، وتأخذ مسار القائد عمرو بن العاص إلى أن تصل الإسكندرية مرورا بالبلوز وبلبيس وحصن بابيلون، وهو ما يخلق حالة يعيشها السائح تُرغبه في كل محطة يزورها أن يرى المحطة التي تليها ويمكن تطبيقه في شتى مناحي التراث المختلفة مثل الآثار القبطية وعمل مسار يماثل رحلة العائلة المقدسة في مصر، كذلك رحلة الإسكندر الأكبر إلى واحة سيوة عبر الإسكندرية ومطروح.

هذا وقد خرجت إحدى الدراسات المهمة في جامعة حلوان قبل أربع سنوات بنتائج تشير إلى أن سائح التراث الثقافي سائح يميل إلى عدم تكرار زيارة المقصد السياحي، ما يضطر المسوق السياحي إلى فتح أسواق بديلة أقل كفاءة بدلا من التسويق لما يمتلكه من تراث لا يجب أن يبقى خارج دائرة الضوء أكثر من ذلك، وهو ما يمكن استغلاله جيدا في القاهرة مع وجود بدائل تراثية عديدة تحتاج إلى تحرك فوري للحفاظ عليها والتسويق لها لعل السياحة الثقافية تخرج من أزمتها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-