الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قصة عصور الاستدانة من المأساة للمهزلة


قال كارل ماركس إن التاريخ يتكرر مرتين في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة، ولكن للأسف يبدو أنه لم يتوقع أبدا أنه من الممكن أن يتكرر التاريخ أكثر من مرتين وللأسف هذا يحدث في مصر هو لا يتكرر فقط ولكنه مستمر، فإننا لا نملك أن نحل عثراتنا الاقتصادية إلا بالاستدانة التي تحولت لحلقة مفرغة لا نستطيع الخروج منها.

وقصة عصور الاستدانة من ثلاثة فصول، الفصل الأول بين أيدينا من استدانة إسماعيل وحتى فاروق، والفصل الثاني اشتراكية ناصر والاستدانة والسادات منفتحا، والجزء الثالث الاستدانة من مبارك للسيسي.

فعصر وراء عصر وجيل وراء جيل والاستدانة طوق يلتف حول الأعناق، ومرويات الفساد لم تنته وثقافة الرشوة ورشوة الثقافة تعشش في أركان الجدران لا تجد أحدا يزيلها، وقوانين سكسونية تحكمنا تتصالح مع اللصوص لتعيد أموال سرقوها وانتفعوا من ورائها وكونوا ثرواتهم ولم يحاسبوا على ذلك بل نصفق لهم لأنهم أعادوا لمصر أموالها التي نهبوها، والحجة جاهزة فالمدرسة الحديثة في العالم والقوانين الجديدة تتجه للتصالح.

ونذهب لصندوق النقد وفي رواية أخرى بنك التسليف لأن وضعنا الاقتصادي في غاية الصعوبة وعجز الموازنة تحديات خطيرة، والحل هو الاستدانة، وقبول صندوق النقد إقراض مصر هو أكبر دليل على أننا على الطريق الصحيح، هكذا يصور لنا النظام.

وللاستدانة تاريخ لا ينسى كتبه المصريون بدمائهم ليس فقط بعذاب فقرهم وعوزهم، بدأت بحفر القناة بالسخرة ومرت بأسواط الإقطاعيين في زمن الملكية، وبأحلام الاشتراكية مع عهد عبد الناصر التي تحولت لسراب، وبوعود الرخاء في عصر الانفتاح والتي استفاد منها اللصوص فانتفض الناس ونعتهم النظام بأنهم "حرامية".

وجاء مبارك وزاد الفساد والاستدانة فخرج المصريون يهتفون بالعيش والحريّة والكرامة الإنسانية، وجاء الإخوان باسم الشريعة وذهبوا لصندوق النقد الذي يسلف بالربا كما كانوا يردد رئيسهم حينما كان نائبا، وسقطوا.. وأخيرا وليس آخرًا الاستدانة مستمرة والفساد لا ينته وفواتير يدفعها الفقراء والعبيد، أما الأسياد والمسئولون فيعيشون في فنادق 5 نجوم ويخرج علينا وزير التموين في عصرنا ليقول "فلوسي ولا يحق لأحد سؤالي" ورددها وبكل تبجح، ونستيقظ على تعيين محافظ للقاهرة متهم في قضية فساد أمام جهاز الكسب غير المشروع، وسرقة الدهب من خزنة المالية بمفاتيح أصلية كما صرح وزير المالية السابق.

التاريخ طويل وأيامه في غاية الصعوبة ويبدو أنها قصة لم تنته فصولها وأجزاؤها قاسية، ولكن لابد أن نرويها لنكتشف أن معنا نحن فقط التاريخ يكرر نفسه أكثر من مرة وليس مرتين، فنحن تخطينا المأساة في المرة الأولى والمهزلة في المرة الثانية، بالإضافة إلى أنه عندما تنتهي فترة وتأتي الأخرى كأننا نبدأ من الأول ولا نستفيد من أخطائنا.

وإلى الفصل الأول من القصة

يعتبر "سعيد" هو أول من اقترض في تاريخ مصر، أما الخديوي إسماعيل فهو أول من أغرقنا في الاستدانة لإسرافه وبذخه الشديدين، وكانت لهذه القروض أهداف سياسية، حيث إنها كانت البوابة للنفوذ الأجنبي والتدخل بحجة الإشراف على مالية البلاد ضمانا لقروضهم.

وتقول الدكتورة لطيفة محمد سالم، في كتابها القوى الاجتماعية في الثورة العرابية: "مضى إسماعيل في مسألة القروض فكانت حياته سلسلة متصلة الحلقات في عقدها، فهي تعطيه الراحة النفسية التي تتفق مع أهوائه، وكانت من أدوات عظمته تلك المظاهر، وذلك الإسراف الذي سهل له طريق البنوك، واغترقت يداه من الخزانة لا ليرضي نزاعاته الشخصية فحسب بل ليشبع لها الطامعين الملتفين حوله".

وكانت سياسات السخرة والجباية سمة هذا العصر بشكل فاق الوصف والخيال، فكانت الضرائب بتجمع من الفلاحين بالكرباج وبوسائل تعذيب أخرى كثيرة وبالسجن أيضا، فعلامات تعذيب الفلاح على ظهره لم تختف لحظة واحدة.

وجاءت السخرة في حفر قناة السويس، فقد تم إكراه حوالي ربع مليون مصري كأكبر حشد آدمي في تاريخ الشركة التي حصلت على امتياز حفر القناة، بالنظر إلى أن تعداد سكان مصر وقتها كان 4.8 مليون نسمة، وذلك في العام 1862.

وقد حددت اللائحة أجور العمال ووسائل الطعام وإعداد ماء الشرب ومواعيد دفع الأجور، بمبلغ يتراوح بين قرشين ونصف القرش وثلاثة قروش في اليوم للعامل الذي يزيد سنة على 12 سنة، أما العامل الذي يقل عن 12 سنة، فيتقاضى قرشا واحدا.

كما التزمت الشركة بتقديم الخبز المقدد إلى العمال بقيمة قرش واحد، على أن يتم تقديمهم للعمال كل يومين أو ثلاثة، بالإضافة إلى أنها فرضت عقوبات على العمال الذين يحاولون الهرب، عبر مادتين وردتا في اللائحة، بالإضافة إلى فرض حراسة شديدة عليهم أثناء سفرهم من وإلى العمل.

وعندما احتدم النزاع بين الشركة وبين الحكومة المصرية عامي 1863-1864، حول إلغاء السخرة في حفر القناة، حصلت الشركة على تعويض 75 مليون فرنك كتعويض عن إلغاء بند السخرة، في حين أن إجمالي رأس مالها كان 200 مليون فرنك.

ويأتي يوم الاحتفال بالافتتاح لنرى حجم التناقض الرهيب والبذخ أيضا، ففي عهد الخديوي إسماعيل بلغت تكلفة الحفل مليونا و400 ألف جنيه، فالحفل عكس حالة السفه والبذخ بأرواح ودماء هذا الشعب الذي حفر القناة بالسخرة، ويأتي الخديوي إسماعيل يحتفل من ثروات أهل مصر التي أهدرها، ليس هذا فحسب بل يدخلنا في حلقة الاستدانة المفرغة ونفوذ أجنبي انتهى باحتلال إنجليزي مباشر في عام 1881.

وأصبحت مصر مستعمرة إنجليزية تعاني من ظلم الاحتلال، وحكام الأسرة العلوية، وطبقة من الإقطاعيين تمتلك كل شيء ومنها من كان يتحالف مع الاحتلال والآخر مع الملك، والقليل منها مع الوطن، ووفقا لمقولة غاندي "كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن"، وهذا هو حال مصر حتى الآن.

وزادت الفجوة كثيرا والطبقية هي عنوان هذا العصر، ووصلت الأمور إلى منتهاها مع نهايات حكم الملك فاروق، وكانت الأمور تنذر بعواصف حقيقية.

أحلام أهل مصر لم تكن في يوم من الأيام خيالية أو صعبة ولم تكن أيضا طموحاتهم كذلك، فالعامة لا يطمحون للسلطة ولكن يتمنون تطبيق العدالة.. الفجوة الطبقية في أواخر عهد الملك فاروق زادت بصورة مذهلة.

يقول "اويد سي. جاردنر"، أستاذ التاريخ بجامعة روتجرز، في كتابه "مصر كما تريدها أمريكا من صعود ناصر إلى سقوط مبارك" في عام 1949 "حذّر أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في تقرير له عن حديث جرى بينه وبين نظيره البريطاني، واشنطن من أن ثمة شعورا في لندن عن قرب حدوث ثورة وشيكة في مصر، وأنه يمكن وقفها من خلال تدخل مستنير من فاروق، لكن يبدو أن هذا الملك الشاب يشارك ملاك الأراضي الرجعيين وجهات نظرهم ومصالحهم الخاصة، وكان الوضع في مصر أكثر سوءا من باقي البلدان العربية، وذلك بسبب الضغط السكاني وقلة مساحة الأراضي الزراعية".

جاء بتقرير الدبلوماسي الأمريكي أن المسئول البريطاني لم يكن يعرف المدة التي يمكن للمعدمين الصبورين الاستمرار في تحمل عبء الموسرين غير المستنيرين، لكنه تصور أن الثورة ستندلع قبل وقت ليس بالطويل.

وأضاف الدبلوماسي أنه يعتقد أن فاروق سيكون أول المغادرين وقدميه في المقدمة بعد أن يقتله الثوار، بيد أنه حينما قامت ثورة 1952، قام الجيش بمصاحبته حتى اعتلى متن السفينة التي أقلته للخارج مكرما مع أداء التحية العسكرية له، وفيما عدا ذلك فقد تحققت آراء الدبلوماسي بما في هذا رأيه بأنه لن يحدث تغيير كبير لمعظم المصريين ثم أضاف قائلا إنه بدلا من ذلك ستظهر أهداف سياسية من الرجال الذين سيستولون على الثورة ويحوّلونها لخدمة مصالحهم الخاصة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-