الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أريـجُ القـرَنْـفُـل..



ما كدنا نقطع تلك الرَّدْهةَ الطويلة في كلِّيات جامعتنا الموقَّرة، حتى باغتني صاحبي قائلًا: ما سرُّ القرنفل الذي تداوم على وضعه في فمك؟ هل تحب القرنفل إلى هذه الدرجة، أم أنه وَجَعٌ بأسنانك؟!

لم يكن يعلم أنه بسؤاله هذا قد أعادني لذكرى بعيدة في حياتي، ذكرى شغفي برائحة القرنفل، بل الحق أنني لم أكن أعرف يومها ما هو القرنفل أصلا!!

كانت المرة الأولى التي يصطحبني فيها والدي رحمه الله تعالى إلى المقرأة القرآنية بالجامع الأزهر الشريف، وكان هناك شيخ المقرأة .. رجل مهيب الطلعة، منير الوجه، ظاهر الصلاح، ذو صوت جهوري جميل.

أذكر أن والدي رحمه الله تعالى قدَّمني على نفسه في القراءة حين جاء دوره، فقرأت على الشيخ الجليل خمس آيات من أول قوله تعالى: ﴿واذكر في الكتاب مريم...﴾ [مريم: 16]. فما انتهيت حتى أثنى الشيخ على قراءتي، ودعاني للسلام عليه، فتقدَّمتُ أقبِّلُ يده، فتكلم يدعو لي بخير، وهنا غمرني عَرْفٌ طيِّب يخرج من فمه الطاهر، ولاحظت أنه يلوك شيئًا في فمه.

انتظرت بفارغ الصبر حتى انتهت المقرأة، ثم بادرت والدي رحمه الله سائلًا: مَن هذا الشيخ؟ وما هذه الرائحة الطيبة التي تخرج من فمه؟ فأجابني: هذا الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف، شيخ مقرأة الجامع الأزهر، والرائحة الطيبة تأتي من قطعة قرنفل يضعها في فمه؛ لأن تطييب الفم عند قراءة القرآن الكريم أدب مهم من آداب القراءة!

خرجت من الجامع الأزهر يومها، وكلي عزم أن أتشبه بهذا الشيخ الجليل في ذلك الأدب الرفيع، ولم أكن أعرف حينئذ أن القدر سيُسعِدني بالقرب منه، ولا بالتتلمذ عليه، ولا بكتابة سيرته الطاهرة بعد وفاته! وعلى كلِّ حال: فلست أعتبر ما أكتبه الآن من سيرته إلا ضَربًا من ضُروب شكر النعمة.

وُلِد العلَّامة المقرئ المسنِد، الصالح البركة، الشيخ: عبد الحكيم بن عبد اللطيف بن عبد الله بن سليمان، الطُّوَيْري (نسبة إلى قرية: الطُّوَيْرات بقنا)، الصَّعيديُّ القِناوي، المصريُّ مولِدًا وموطِنًا، الأزهريُّ تربيةً، الحنبليُّ مذهبًا، في يوم الخميس، غرة شهر رجب الحرام، عامَ 1355 هـ، الموافق: للسابع عشر من شهر (سبتمبر) عامَ 1936م، بمنطقة (الدُّمُرْداش) التابعة لحي (الوايِلـي) بمحافظة (القاهرة).

كان والده رحمه الله تعالى تاجرًا، شديد الطبع؛ فربَّاه على الجِدِّ والحزم كعادة أهل الصعيد، واهتمَّ به رعايةً وتنشئةً؛ فلم يكَد يشِبُّ عن الطَّوْق حتى أرسله إلى الكُتَّاب في جامع «سيدي دُمُرْداش المحمَّدي»، فتعلَّم الكتابةَ والخطَّ، وحفظ القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، وأتـمَّها وعمرُه ثلاث عشرة عامًا، على الشيخين الأخوَيْن: إمام عبده حلاوة، وعبد الله عبده حلاوة، وكلاهما من تلامذة العلامة الشيخ حسن الجُرَيْسي الصَّغير. ثم قرأ عدَّة ختَمات برواية حفص ـ أيضًا ـ على الشيخ مصطفى عرفة، وهو من تلاميذ شيخه: إمام عبده حلاوة..

التحق بعد حفظ القرآن الكريم بمعهد العباسية الابتدائي، فلم يكمل عامه الأول حتى نقله والده رحمه الله إلى معهد القراءات بالأزهر الشريف ـ وكان يومئذٍ مجرَّد قِسم تابع لكُلِّية اللغة العربية ـ فالتحَق بمرحلة التجويد بالمعهد في عام 1950م .

لقِيَ ـ خلال دراسته في تلك المرحلة ـ العلَّامةَ المقرئ الفقيه القاضي الشيخ محمود علي بِسَّة الحنبلي، فقرأ عليه عدَّة ختَمات برواية حفص عن عاصم، وحضر له شرح «تحفة الأطفال» للجمزوري، وشرح «المقدِّمة» لابن الجزري، وسمع منه كتابه: «العميد في علم التجويد». وهو الذي حبَّبه في المذهب الحنبلي، فانتقل إليه ـ كما حدَّثني ـ بعد أن كان مالكيًّا.

التحق في عام 1952م بمرحلة العالية، فحضر شرح الشاطبية والدُّرة على العلامة الشيخ محمد عيد عابدين الحنفي، والشيخ أحمد مصطفى أبو حسن، كما تلقى علوم القراءات عن الشيخ أحمد الأشموني الحنفي، والشيخ أحمد علي مرعي، والشيخ متولي الفقاعي رحمهم الله.

وقرأ بصحن الأزهر على الشيخ عثمان سليمان مراد ـ صاحب السلسبيل الشافي ـ ثلاثة أجزاء برواية ورش. ثم قصد إلى الشيخ محمد مصطفى الملَّواني، تلميذ الجريسي الصغير، فحفظ عليه الشاطبية والدُّرة، وقرأ عليه البقرة وآل عمران من طريقهما. ثم انتقل إلى العلامة المقرئ المفسِّر الشيخ مصطفى منصور الباجوري ـ تلميذ الشيخ محمد مكي نصر، والشيخ علي سُبيع، وشيخُ مقرأة المشهد الحسيني ـ فقرأ عليه من طريق الشاطبية والدُّرة إلى آخر سورة القصص.

وتوطَّدت علاقته بالعلامة أحمد عبد العزيز الزيات، وكان يقصده في بيته، ليقرأ عليه «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام الغزالي، و«الهدي النبوي» للشيخ بن قيم الجوزية، فقرأ عليه ختمة كاملة بالعشر الكبرى من طريق طيِّبة النَّشر، على إثر رؤيا مباركة رآها، وختم عليه في عام ونصف العام.

التحق في عام 1955م بمرحلة التخصص في القراءات، وفيها درَسَ على العلامة عامر السيد عثمان شيخ عموم المقارئ المصرية، والشيخ حسن المرِّي، والشيخ خميس نصار، وقرأ ختمة برواية حفص على الشيخ محمود بكر الشافعي أحد أساتذة المعهد. كما حضر للعلامة الشيخ إبراهيم شحاذة السمنودي، وقرأ عليه للعشر من الشاطبية والدُّرة والطيبة. وكنتُ ذكرت الشيخ عند العلَّامة السَّمَنُّودي رحمه الله، فقال: عبد اللطيف من خير من قرأ عليّ!!

وسمع به العلامة عبد الفتاح القاضي، شيخ معهد القراءات، ورئيس لجنة مراجعة المصاحف، فدعاه إلى بيته، واختبره في القراءات، وأعجب به جدًّا، ورشحه للتدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فدرَّس بها مدة عام واحد.

وفي عام 1960م عُيِّن مدرِّسًا للقرآن الكريم بمعهد الإسكندرية الابتدائي، ثم انتقل في عام 1961م إلى التدريس بالقاهرة، ثم عمل مدرسًا للقراءات والتجويد بمعهد الفيوم الثانوي الأزهري، لمدة عامين، انتُدِب بعدها للتدريس بمعهد القراءات بالقاهرة، فعاد أستاذًا يرُدُّ الجميل للمكان الذي تخرَّج فيه، وظلَّ يُدرِّس بالمعهد حتى رُقِّيَ إلى درجة التفتيش على المعاهد الأزهرية، ولم يزل كذلك حتى أحيل للمعاش في عام 1997م.

كما عُيِّن شيخًا لمقرأة مسجد «الهجيني» بشبرا، ثم شيخًا لمقرأة مسجد «عين الحياة» بحي دير الملاك، فشيخًا لمقرأة مسجد «سيدي الإمام الشَّعراني» بباب الشعرية، ثم لمقرأة مسجد «السيدة نفيسة رضي الله عنها»، فشيخًا لمقرأة مسجد «السيدة سكينة رضي الله عنها»، ثم عضوًا بلجنة مراجعة المصاحف، فوكيلًا لها، ثم شيخًا لمقرأة الجامع الأزهر الشريف، فشيخًا لعموم المقارئ المصرية في عام 2013م.

وشارَك إلى جوار ذلك في عُضويَّة هيئة التحكيم للمسابقات القرآنية الدولية في عدد من البُلدان؛ منها: ماليزيا، واستراليا، وروسيا، وأمريكا، وقَطَر، والسعودية، والإمارات، والكُوَيْت، وغيرها.

وكان رحمه الله تعالى من الـمُتقِنين البارعين، وشرحُه للقراءات أصولا وفرشا في غاية الإتقان والإفهام. كما يظهَر تمكُّنه، وجَوْدة أُسلوبه، وسلاسة عَرْضه في تعليقاته على القراءات القرآنية المسجَّلة بالإذاعة والتلفزيون.

وكان رحمه الله ـ على كثرة شُغله ومَهامِّه ـ حسَنَ المظهر، عطِر الرائحة، بَشوش الوجه، له هيبةٌ عجيبةٌ ووقعٌ في النفس، وكان قليلَ الكلام جدًّا، يبغض أهل البدع والمعاصي، ويحب الصالحين، ويسعى لزيارة الأولياء والتبرك بآثارهم، وسافر غير مرة لزيارة سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وكان له زيارة متواترة لضريح الإمام الشاطبي لا تتخلف.

وكان يُبغِض الشُّهرة إلى أقصى درجة، طلبتُ منه التقديم لأحد كتبي فقال: «شريطة ألا يُكتب اسمي على الغلاف»!. وعُرِضَت عليه مشيخة المقارئ المصرية مرتين فأبى، ولولا تذمُّمه في المرة الثالثة ما قَبِل.

وكان قويًّا في الحق، صُلبًا، لا تأخذه في الله لومة لائم، محبًّا للعلم وأهله، مشاركًا في العلوم، استجاز العلامة عبد الله بن الصديق الغماري عامة فأجاز له، واستجزته عنه وعن الشيخ محمود علي بِسَّة بكتابه «العميد» فأجاز لي. وقرأت عليه بعض القرآن في معهد الحرمين، والجامع الأزهر، وببيته في عين شمس، وأجازني مشافهة بما قرأت فقط.

وسألني مرة: إلى من تختلف من أهل العلم؟ فذكرت سيدي العلامة أحمد مختار رمزي الحنفي رحمه الله، فقال: «قد وقع في قلبي أنه رجل من أهل الصلاح فاستجِزه لي»، فاستجزت له من شيخنا مختار؛ فأجاز له، ولما أعطيته الإجازة قال: «ما سرَّني أن لي بها الدنيا»!!

وفي ظهر يوم التروية، يوم الجمعة، الثامن من شهر ذي الحجة الحرام، عام 1437 هـ ، الموافق: للتاسع من شهر سبتمبر، عام 2016م، جاءه داعي ربه عزَّ وجلَّ فأجاب، وصُلِّي عليه بالجامع الأزهر الشريف، بمشهدٍ عظيم حافل، حضره كبار العلماء والمقرئين من أهل مصر، وأمَّ الصلاة عليه الشيخ عبد الحميد يوسف، إمام الجامع الأزهر السابق، بوصية منه رحمه الله.

وهكذا... رحل عن الدنيا إلى سعة الجنة الباقية رجلٌ قضى حياته في خدمة القرآن، وعُرِفَ بين العلماء بالصدق والإخلاص ورعاية حقوق الله تعالى في الحركات والسكَنات.

وهو وإن رحل بشخصه، فلن تزال سيرته الطاهرة، وصوته الشجي، وصورته المنيرة البهية، تثير في نفسي ـ ما بقيتُ ـ أريجًا طيِّبًا يذكرني ذلك الأريج المنبعث من فمه في أول لقاء بيننا .. أريج القرنفل.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط