الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

صراع نفسي لمواطن مصري


أنا مغموسٌ في الفقر. ألا لعن الله فقر الحال. بيتي من طين وقشّ، تكاد جدرانه تتصدّع. مُهدد بصقيع قادم لا محالة. طالما أن الشتاء قادم ولن يخلف ميعاده، فرعشات البرد ستأتي، والنوم منكمش محاولًا استجلاب الدفء المُستحيل سيأتي. أنا تاريخٌ مشرّف كاد أن يُنسى بين صراعات اليوم. غريق في بحر السياسة وتائه وسط النوّاب لا أعلم من الذي يمثّلني؟ من على صواب، ومن على جُرم! صدري متخم بالربو والتراب، وجِلدي نضج تحت حرقة الشمس. صرت أهرب من حالي اليوم بوسيلة مرضية إلى حد ما، أحلم بمستقبل مشرق قدر ما استطعت. أنام وأحلم، وأستيقظ على الحُلم. أتخيّل وأسرح بخيالي، ثم أستفيق على الوهم.

أمشّط الشوارع عن ملل، فأشاهد الوجوه ذاتها. نساء افترشن السوق بصناديق فاكهة وخُضرة. واحدة منهن تحمل طفلة شعرها أشعث، تمسك رغيف خبز في يد، وحبّة جزر، تجمّع حولها الذباب، في اليد الأخرى. لمحتني أمها فنادتني: تعال. الخضرة طازجة. أتجاهل نداءها وألعن غباءها. هل كون الخضرة طازجة سيجعلني أشتريها؟ فكّرت أن أصرخ في وجهها وأقول لها إنني لا أملك ثمن أي شيء يُباع! فكّرت أن أصرخ قائلًا: ألا تري بؤسي بعينيك؟ أتنظرين ولا تبصرين؟ من أين لي بالمال؟ ولكنني لم أفعل. حتى أن غضبي لم ينعكس على نظرتي. احترفتُ كتمان الغضب وتغليفه بمسحة من برود في الأيام الأخيرة. يصرخ داخلي ولا ينطق لساني ببنت شفه. البلد متخمة بالزحام وأنا أمشي بين الناس لعلّي أتوه عن نفسي إلى الأبد فأفقد ذاتي المُعذّبة.

مرّت سيارة فارهة لسيدة شابة. فتحت نافذة السيارة وأمرت سيدة افترشت الأرض ببعض ثمار الفواكه، أمرتها من خلف نظارتها الشمسية: 2 كيلو تفاح لو سمحتِ. أعطتها أكثر من حسابها ومضت. وجدتُ عقلي يلعن الشابة الثرية، وسيارتها. أتساءل لماذا أتت إلى هذا السوق الشعبيّ؟ هل تقصد أن تكيدني كيدًا؟ هل تشعر بعظمتها وسط عشوائية وجودي؟ حتمًا والدها لص، أو مرتشٍ، أو تاجر مخدرات، وإلا من أين لها هذه السيارة؟ وعيبي أنني مواطن شريف. أما إذا فكّرت في الانحراف عن الطريق الصحيح، والمتاجرة في المخدرات مثلًا، سيمسكون بي بالذات؛ لأنني لا ظهر لي. و.. و... لقد سئمتُ!

لو استبدلتُ عقلي بعقل آخر لارتحت. ولمَ لا أفعل الآن؟ أنا الآن مواطن آخر. ذو عقل لا يمت لعقلي الأول بصلة. دعوني أفكر الآن بعقلي الجديد:

" نساء السوق يفترشن الأرض بصناديق محملة بالفاكهة والخضراوات الملونة. إحداهن تحمل طفلة لها عينان خضراوان بلون الخضرة الطازجة. تمسك رغيف خبر بيد، وبالأخرى حبة جزر بهيجة اللون. لمحتني أمها فنادتني: تعال. الخضرة طازجة. ابتسمتُ لها ومضيت. مرّت سيارة فارهة لسيدة شابة، سحرني جمالها، وصوتها المفعم بالغنج والرقّة، وهي تقول: 2 كيلو تفاح لو سمحتِ. كانت جميلة كبطلة خصّتها الألوان بسحرها في فيلم أبيض وأسود. ماذا لو تقدمت لخطبتها بفقر حالي؟ حتمًا والدها طيب القلب. سيقول تلك الجملة الشهيرة التي يقولونها في مناسبات كهذه: نحن نشتري رجلًا. سيرى فيّ الرجولة التي يأمن بها على ابنته وإن كنت فقير الحال. أعرف أنها أمنية واهية، وأنني رجعت لأستقوى على فقر حالي بأمنيات بعيدة مستحيلة. رجعت إلى بيت الطين. تلحّفت الأماني اللذيذة ونمتُ على تراب الأرض، وظللت أحلم بي وأنا أتقمّص شخصيات مختلفة، لهم صفة مشتركة واحدة، راحة البال.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط