الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عنوان هذا المقال يثير الغضب


قال: اكتبي عن مواجهة الغلاء بالاستغناء. تفكّرت في هذه الجُملة بعقلين.

(1)
سيّدة عجوز بسيطة، تجاعيد وجهها الغائرة كفيلة بأن تحكي تاريخها الأليم مع الدنيا. فرشت الأرض بعشرات الجرائد وجلست تبيعها على الرصيف. تهشّ الذباب عن وجهها بيدها النحيفة البارزة عظامها كأنها هيكل عظمي يكسوه الجلد ولا يتوسطهما لحمًا، فتحت كفّها متناولة جنيهين معدنيين من مشتري أخذ جريدة واحدة وذهب.

 نظرت للجنيهين مليًّا قبل أن تضعهما في كيس بلاستيكي أسود. تخيلت ما الذي يدور في رأسها وهي تنظر إلى الجنيهين هكذا. "شكرًا ياالله أنك منحتني جنيهين آخرين، بفضل هذين الجنيهين صار معي الآن خمسين جنيهًا. سأتمكن من شراء دجاجة للأولاد أطبخها لهم على الغداء، وإذا زاد المال حتى المساء، سأستبدلها بلحم وخبز وسكر.

مواجهة الغلاء بالاستغناء؟ ماذا لو قال أحدهم هذه الجملة لثوري؟ " ألا لعنكم الله. هل تطالبوننا بأن نجوع؟ أنستغني عن الطعام والشراب أيضًا؟ ولماذا؟ سنقتل أنفسنا بجملة الاستغناءات. ما فائدة إنسان يعيش في هذه البلد وهو لا يملك حتى الضروريات؟ لا مأكل ولا ملبس ولا مسكن ولا وظيفة! ثم تقولون لنا أيضًا بكل تبجح الدنيا، واجه الغلاء بالاستغناء! سأستغنى عنكم جميعًا ولن أستغنى عن رغيفي."

(2)
"وأخبر جوليان أحد الشركاء أنه كان يبغي تبسيط حياته، وأنه في حاجة إلى بعض الأجوبة... لقد باع جوليان قصره، وطائرته، وجزيرته المنعزلة، والأدهى أنه باع سيارته الفيراري أيضًا."

*من كتاب (الراهب الذي باع سيارته الفيراري لروبن شارما).

ولكن.. ما هذا الجنون؟ أيبيع ثري كل ما يملك ويسافر إلى الهند من أجل الحصول على بعض الأجوبة؟ ما هي هذه الأجوبة التي هي أثمن من القصور والعيشة المرفهة والممتلكات؟! 

(3)
لملمت السيدة العجوز فرشها في منتصف اليوم بعد أن أرهقتها شمس العصريّة. وكانت قد كسبت سبعين جنيهًا بعضهم من بيع الجرائد، وبعضهم أخذتهم صدقة من أولاد الحلال الذين يبتغون بتصدقهم تكفيرًا لذنوبهم وشفاء لمرضاهم. قررت وهي ذاهبة في طريقها إلى المنزل أنها ستشتري دجاجة وخبز، ولغت فكرة اللحم من عقلها، على الأقل اليوم. 

هناك طريقتين يمكننا أن نعيش بهم. إما أن تكون السيادة لنا، وإما أن تكون السيادة للمال. هذا ما فهمته أنا على الأقل.هناك فقراء يعاندون المال ويكيدونه كيدًا، وهناك أثرياء يفعلون مثلهم. يتسيّدون المال. فتجد الفقير يُشفق على نفسه من أن يكون تحت رحمة المال، يشفق أن يكون المال هو الذي يحدد مصيره، ووفقًا له سيعيش اليوم بسعادة أو بتعاسة، ووفقًا له سيأكل ويشرب، ووفقًا له سيموت ويحيا. 

يشفق أن يصغّر نفسه فيجعلها ضئيلة جدًا أمام الجنيه، وهنا فقط، يقرر أن يستغنى عنه بتعفف، ويحوّل الحرمان إلى اختيار إرادي. كأن يختار الإيمان بأنه نباتيّ كبعض المثقفين والأعيان! كأن يقول " سأستغنى بإرادتي عن اللحوم بأنواعها، سأحب الغرفة البسيطة التي أملكها، وسأمقت القصور الضخمة لأنني لا أحب المساحات الشاسعة. غرفتي حميمية وأكثر دفئًا. أنا سيّد القرار، وأنا من يحدد ما الذي أحتاجه وما الذي لا أحتاجه".

ربما هم هكذا يفكرون. على عكس تفكير بائعة الجرائد التي حددت وجبة غدائها وفقًا لكمّ المال الذي تملكه في جيبها. إذا استبدلنا عقلها بعقل واحد من هؤلاء المستغنيين لربما قرر من بداية اليوم أن يأكل فولًا وخبزًا بغض النظر عما سيكسبه هذا اليوم؛ لكي يكون هو صاحب القرار في كل الأحوال، فيتسيّد بقراره على المال. 

ما زلت أفكّر في هذه الجملة " واجه الغلاء بالاستغناء" ولا أقول هنا نصائح، ولا أناقش موضوعًا عن التنمية البشرية. هو محض تفكير لا أكثر ولا أقل. ولم أعرض في هذا المقال كيف يفكر الثري المستغني؟ ربما سأتحدث عن هذا لاحقًا، بعد أن أعرف ما هي الأجوبة الثمينة التي يبحث عنها بائع السيارة الفيراري؟!. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط