الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خرس سياسي


اعتدنا في فترة ما قبل الثورة أن نعاني من نظام متجبر فاسد. كنا نتظلّم معًا، ونكره محتكري الآراء ومصائر الشعوب. ننظر بعين واحدة، بأسى بالغ، لفقر قاطني الأحياء الشعبية والعشوائيات والبيوت الهالكة ذات الجدران المتآكلة، إذا وجِدَت الجدران .. نرى الفقر يتغلل،كوباء سريع الانتشار والتكاثر، في أعماق الحارات والشوارع المصرية.

 بعضنا يرى الأزمة من الخارج ويتأذى. ومعظمنا يعيش في باطن الأزمة ويتعايش معها مجبرًا. كنا نبكي سويًّا على حال البلد بلا أدمُع، ونضحك سويًّا على نكات نجيد إلقاءها، في أبشع الظروف، كنوع من السخرية على حالنا والترويح عن قلوبنا.

تجد ذوي " الألسنة الطويلة " يسبون ويلعنون المسؤولين والسياسيين والحكومة بغضب شديد. وهذا لا يعني بالضرورة أن أخلاقهم سيئة أو أنهم غير متدينين، ولكن من " غلبهم " كما يقولون. أما المتحفظين الأكثر حرصًا على سلامة قولهم وخلو كلامهم من أي ألفاظ فظة يكتفون بـ " حسبنا الله ونعم الوكيل".

 باختلاف طبائعنا ننكسر الانكسار ذاته، ونحزن لنفس السبب، ونبكي وطنًا واحدًا. نبكي أنفسنا تارة وتارة نضحك عليها! وذلك من شدة البأس، ونتيجة لفقدان الأمل في صلاح الحال. فقد كان الحلم بالتغيير حرام.

كنا نرى بيوتهم الضخمة وقصورهم وأموالهم في تزايد مستمر.. وبيوتنا آيلة للسقوط. يمدون أيديهم في جيوبنا بكل جراءة وفي وضح النهار ليتمتعوا بأموالنا، ثم يدهسوننا بالأقدام .. إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة، والأيام الفارقة..
ثار المظلومون والعاطلون والشباب والنساء والأطفال والشيوخ المستاؤون من حال البلد المتردي.

 كانوا يهتفون بكلام واحد، ويطالبون بمطالب محددة واضحة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية ". يطوفون في الميدان وتجتمع حناجرهم وأكفهم وأفكارهم ورؤاهم وكأنهم كيان واحد.. جسد واحد وصوت واحد!

في هذه الفترة عشنا معا لحظات التغيير والحرية. كل فرد شعر بأنه ليس مجرد رقم في بطاقة شخصية، أو حِمل زائد على بلد مكتظة بالبشر .. كل مصري شعر بأنه إنسان ذو أهمية وله صوت! له رأي وكلمة مسموعة وقوة رادعة. يمكننا أن ننتصر على الظلم وننهض بمصرنا وننفض عنا غبار أزمنة مليئة بالتشاؤم والمذلة.

 اكتشف كل منا كينونته المستترة، وإرادته المختبئة داخل دهاليز الروح. وقتها، حللنا لأنفسنا الأحلام والآمال والطموحات الكبيرة. كنا يدا واحدة وحنجرة واحدة تصرخ بالحق.

أما الآن، فقد تغير كل شيء. بدلا من أن نظل هذا الجسد الواحد صرنا كإخطبوط له ألف ذراع. أو بمعنى أدقّ، له 90 مليون عقل. لا نتفق على شيء، ولا نتقبل آراء مختلفة عن آراءنا. تتكاثر الأحزاب وتتفرق الجماعات وتختلف الاتجاهات وتتشتت العقول والقلوب!

لم تعد الأزمة أزمة هوية الحاكم بعد الآن، بل هي أزمة شعب قد تفرّق. انظر حولك وسوف تجد الأسرة الواحدة وقد انقسمت إلى قسمين أو ثلاث! كل فرد متزمت برأيه الخاص وعلى يقين تام بأنه الأذكى والأعلم بأمور البلاد والبقية مجرد أغبياء ساذجون لا يفقهون في السياسة ألف باء.

لم نعد نتشارك الهموم ونتقاسم الآهات والضحكات البائسة، بل صرنا نتقن فن المبارزة بالأحداث السياسية والمشاجرة والغضب. نصرخ ونطالب بالحرية ولا نعطيها لغيرنا ! ندعي العلم ونتكلم عن جهل. ندافع بعنف عن وجهة نظرنا ونحاول بشدة أن نفرضها على الطرف الآخر. الكل يسب ويلعن ويتأفف من غباء الآخرين وصغر عقولهم. استبدلنا النكات باللعنات والضحكات بالوجوه العابسة.

كم أتمنى لو أصيبت ألسنتنا بخرس سياسي كــ " مهلة " طويلة حتى نقطع أذرع الأخطبوط ونعود لنتقاسم نكات وضحكات وكفاح يبني وطن. لا شجار يهدم كيان الإنسان والبلد. الطريق إلى الجحيم أصعب من الطريق إلى الجنّة، ولكننا نستحلي الهدم والتخريب واللعن واللوم وتعذيب أنفسنا حدّ رمي كل الحلول في النهر!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط