الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وجع الفراق


نعم.. أمي ماتت، ومات معها كل شيء

نعم.. كنت أعلم أنها آخر مرة سأراك فيها أمي؟!، عندما اصطحبتك في صباح يوم الثلاثاء العاشر من شهر محرم الماضي، الموافق الحادي عشر من شهر أكتوبر، إلى مستشفى بهية الخيري لعلاج أوارم الثدي، لتلقي الجلسة الخامسة وقبل الأخيرة من العلاج الكيماوي الحارق، من ذلك المرض الخبيث الذي داهمك على حين غرة ودون أي مقدمات.. عرفت أنني أصبحت يتيما قبل أن يتوفاك الله، راضيا ومرضيا بقضائه وقدره.

لن أنسى أبدا أنني رأيتك أمي عندما جاءك ملك الموت ليقبض روحك، كم كنت سعيدة أنك ذاهبة للقاء ربك فرحة ومسرورة، راضية بقضاء الله.. نعم كنت تعرفين أنك أيضا لن تريني مرة أخرى بعد تلك اللحظة.. نعم، إنها سنة الحياة، لكن وجع الفراق لن تمحوه الأيام.

لن أنسى صوتك يا أمي، عندما اتصلت بي من داخل غرفة تلقي العلاج الكيماوي، قبل وفاتك بثوان معدودة، تقولين لي خلاص يا حبيبي روح نام واستريح.. أنا تقلت عليك أوي، وأغلقت الهاتف لأجد كل من في المستشفى يهرول إلى الغرفة التي كنت تتلقين فيها العلاج الكيماوي، يحاولون إنقاذك وكأنهم لم يعرفوا مثلما عرفت أنا في لحظتها أن أمر الله قد نفد.. ما زالت كلماتك هذه تتردد داخل أذني كأنك تقوليها لي الآن.

حقًا، كنت أعلم أن هذا اليوم سأصبح فيما بعده يتيما أعيش ما تبقى من حياتي بلا أمي، فالله أخبرني بأن لحظة فراق أمي قد حانت، عندما استئذنتها قبل بدء جلسة "النهاية" بدقائق لأصلي صلاتي الظهر والعصر، وأثناء سجودي وجدت نفسي أدعو الله قائلا: اللهم ارحم أمي وأسكنها اللهم فسيح جنات بغير حساب في صحبة الرسول الكريم وصحابته وسائر الرسل والشهداء والصديقين، ثم استغفرت الله وعدلت دعائي اللهم اشفها.. نعم علمت أنه قد حان الفراق، فراقك لي يا أمي.

ما أوصيتيني به يا أمي في أثناء رحلة اللا عودة، أعاهدك أن أنفذ كل وصية منها..

أمس السبت 19 نوفمبر 2016، أربعون يوما مرت على فراقك أمي، لكنك لا زلت تملأين حياتي، تحدثيني، تنصحيني، وأحدثك، وأحكي لك عن كل شيء، فروحك ما زالت تلازمني وتصحبني رغم أن جسدك قد فنى، واستودعتك أمانة عند ربي الكريم.

أمي توفاك الله، وقد استجاب دعوتك بأن لا تكوني في حاجة لأحد، أو أن يقعدك المرض.. أمي لبيت نداء ربك وقُبضت روحك بعد أن أمرتيني لأحج بيت الله الحرام فأطعتك وحججت، رغم أني كنت قد حججت بيت الله في العام السابق.. نعم لم يكن بينك وبين الله حجاب وقتها، وكُشف عنك بصرك.

كل من كان يعرفك يا أمي، بلا شك هو يعرف كم تحديت المرض في سنواتك الأخيرة، وأنك كانت صابرة على الابتلاء، ففي كل عام من الثمانية أعوام الأخيرة في حياتها كانت تُحتجز في المستشفى لتجري جراحات خطيرة، والسبب مرض السكر الذي داهمها وهي في ريعان شبابها قبل 35 عاما، فمرة تم بتر أصبع قدمها، الذي أصيب بغرغرينا القدم السكرية، وبعدها بعام استئصلت رحمها، وطيلة الثمانية أعوام أجرت أكثر من عشر جراحات في عينيها بسبب تأثر الشبكية بمرض السكر، وآخرها رضت بقضاء الله عندما عرفت أنها ستستأصل ثديها بسبب السرطان اللعين، بعد الانتهاء من العلاج الكيماوي، الذي كانت ترفضه بشدة وتقول لي "سيبوني أموت مرتاحة.. أنا عارفة أن الأجل قد دنى".. ولكن!!".

كل من عرفك يا أمي، يشهد لك بأنك كنت مؤمنة مسلمة، وأن كل حرف وكلمة في القرآن الذي كنت عامرة به، سيكون شفيعا لك يوم القيامة.

40 يوما والدموع لا تفارق عيني والحزن يملأ قلبي، أصبحت يتيما بلا أم، لكني أعلم علم اليقين بأنك ذهبت إلى جنة الخلد، فقبرك كان يشع نورا والملائكة كانت تحيطك، والسعادة كانت تملأ وجهك بعد أن توفاك الله، وقتها عرفت معنى قول الله تعالى: "وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".

في كل مكان وفي كل شارع لي معك ذكريات حياتي كلها، أجدك دوما بجانبي، فرغم أنك ذهبت إلا أنك لن ولم تفارقيني، فالحياة بدونك لا طعم لها، برحيلك انطفأت بداخلي بهجة الحياة.. كنت تتمنين الشهادة في سبيل الله فاستجاب لك ربك الدعاء، نعم أنت شهيدة وأحتسبك عند الله شهيدة.

طفلي الصغير آمن، ذو السنوات، الخمس طمأنني عليك عندما استيقظ من نومه بعد رحيلك بثلاثة أيام، بأنك في مكان أفضل من هذه الحياة الدنيا، عندما قال لي أنه رآك في منامه، بأنك ذهبت إلى حديقة بها أشجار وأنهار وخضرة، فرحة مسرورة.

أمي.. هل تعلمين أن الحياة دونك لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.. أعيشها وكأنها بلا هواء وماء!.. وماتت بداخلي كل الأحاسيس والمشاعر، أصبحت يتيما.. لم أعرف قيمة الأم وغلاوتها إلا في تلك اللحظة، لحظة الفراق.

نعم يا أمي، أعرف أن الفراق، قدر مقسوم علينا جميعا، لكنني أحسست أني بل مأوى بعد أن فارقتني حضنك الذي كنت أرتمي فيه وأحتمي به، فأنتي التي كنت تحتويني، تفرحين لفرحي وتحزنين لحزني، تحملتيني وعانيتي من أجلي الكثير، وضحيتي بنفسك من أجلي أنا وأخوتي، وآثرتي على نفسك أن تكوني ربة منزل على عملك، لتصنعي منا جيلا طيب الأعراق.

أفتقدك كثيرا يا أمي.. يا ست الحبايب.

وداعا يا أمي، رائحتك تفوح في سماء الدنيا، روحك تلازمني، وستظل ذكراك العطرة نبراسا لي.. أعاهدك -رحمة الله عليك- أن أكون عملك الذي لا ينقطع بأن أكون ولدا صالحا أدعو لك.

وإلى لقاء قريب، تأخذي فيه بيدي إلى الجنة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط