الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عمار السوري


عمار ... شاب وسيم فى الثلاثينات من عمره يعيش حياة هانئة مستقره مع اسرته الصغيرة فى وطنه سوريا , كان كل شىء يسير على مايرام , فى الصباح يذهب الى عمله ويعود قرب أذان المغرب ليقضى ساعات المساء مع زوجته واولاده الصغار, الى ان جاء هذا اليوم الذى اضطر فيه عمار ان يغادر بلدته حفاظا على سلامة اسرته بعد ان احتدم القتال من حولهم وصاروا مهددين بين اللحظه والاخرى , فى تلك اللحظات كانت الخيارات قليله والامكانيات مهما كثرت تظل فقيرة امام هجرة الدار والعمل والاهل والانتقال الى عالم جديد خفى لا يعلم ما يخبئه له القدر فيه الا الخالق سبحانه .

تنقل عمار من دولة لاخرى وسط اجواء غاية فى الصعوبة, فعزيز القوم ابن الثلاثين ربيعا يذوق هو واسرته ذل مخيمات الايواء وبردها ويبقى فى محاولات دائمة للاستقرار بلا جدوى ولكنه فى النهايه استطاع ان يأتى الى مصر وعن ذلك يقول عمار " حينما اتيت الى القاهرة لم اكن أتعشم فى الكثير اطلاقا ولكنها كانت فقط محاولة لان اجد شعبا ودودا قريبا منا يستطيع تقبلنا ومحاولة ايضا لايجاد حياة افضل اجد بها الحد الادنى من الادمية, تليق بأولادى وزوجتى اما انا فلا مشكلة لدى اطلاقا ان ابيت فى المخيمات".

يكمل عمار ... "عند وصولى الى القاهره اتصلت بصديق مصرى كنت قد تعرفت عليه منذ سنوات طويله حينما كان يقيم بسورية وللحق فقد اكرمته حينها كرما يليق بنا نحن السوريين ولم اكن ابغى من وراء ذلك الا وجه الله وللحق ايضا فان الله لا يضيع اجر من احسن عملا ابدا , وما كان يخطر على بالى حينها ان الايام ستتبدل كى يأتى اليوم الذى اتى فيه الى القاهره طلبا للمأوى وأتصل بصديقى المصرى الذى لم أره منذ سنوات , كنت خائفا جدا الا اجده او ان يكون رقم هاتفه قد تغير ولكن اغلب مخاوفى تبددت مع اول كلمة "الو" وبعد ان تذكرنى حدثته باختصار عما حدث فطلب منى البقاء حيثما كنت واخبرنى انه سيأتى لى خلال اليوم ولكن ربما متأخرا .

فى تلك الاوقات كان لدى هاجس الا يأتى او ان يأتى ولا اجده مهتما مثلا فأصابع اليد لا تشبه بعضها البعض.. وبالفعل قرب المساء اتى صديقى وبعد ان اعتذر على التأخير لظروف العمل تحدثنا كثيرا وكثيرا والغريب حقا انه لم يرد الجميل لى على ما فعلته معه ولم يبادل معروفى بمعروف مثله ... لكنه رده اضعافا مضاعفة والحمد الله الذى صدق وعده فجزاء الحسنة بعشر امثالها.."

ظل عمار يحكى وأنا اتأمله جالسا بجواره فى تلك السياره الفارهه التى يستأجرها للعمل عليها كسائق فى شركة اوبر للنقل , وبينما هو يحدثنى الابتسامه لم تفارق وجهه البشوش ابدا حتى وهو يتذكر اصعب ايام حياته فى حين اننى حينها شردت بخيالى قليلا فتذكرت شبابا مصريا بات يصرخ ويولول كالنساء على صفحات الفيسبوك شاكيا قلة الرزق وضيق الحال بينما هم قابعون ليل نهار فى مضاجعهم او على مقاهيهم يلعنون وطنهم الذى يأويهم ويسخرون من فكرة اننا لسنا كسوريا والعراق وليتهم ذاقوا ذل الترحال ليدركوا نعمة الوطن..

يكمل عمار فيقول "قام صديقى بترتيبات سريعة حيث انتقلنا معه الى شقة فاخرة بحى مصر الجديدة وتعهد بل وأصر على ان يتكفل هو بايجار الشقه الى حين استطيع ان اعول نفسى واسرتى واخبرنى انه سيوفر لى عملا براتب مناسب وظل يوميا يأتينا بألذ واشهى الاطعمه وكان هو وزوجته كأكرم ما رأيت فى حياتى , وبالفعل تمكنت من الالتحاق بوظيفه وانتقلت منها لاخرى ومع عدم الاستقرار السائد فى الاحوال الاقتصاديه بمصر كنت اتنقل بين الوظائف لأجد افضلها وابحث دائما عن الراتب الذى يمكننى من الارتقاء بمستوى معيشة اسرتى دون النظر الى نظرات الناس فالعمل شرف والعمل لايعيب صاحبه بل ان العيب كل العيب يكمن فى اليد البطالة العاجزه عن العمل دون سبب قهرى.

يكمل عمار " وظللت اسعى الى ان استطعت ان استأجر سياره من احد الاصدقاء ومنذ عام تقريبا وانا اعمل بها فى شركة اوبر والحمد لله اتمكن الان من الوفاء بكافة التزاماتى انا واسرتى حتى وان تطلب منى ذلك العمل احيانا لمدة تزيد على الاربع عشرة ساعه يوميا بما فيها ايام الاجازات الرسميه ولكن كله يهون فى سبيل الا اضطر انا واولادى وزوجتى ان نفترش الطرقات مرة اخرى".

ومازال عمار يتحدث ويتحدث وانا مستمتع جدا بحديثه الى ان وجدتنى فجأه وبدون مقدمات قد وصلت الى مكان النزول ولكنى قبل ان اتركه سألته سؤالا واحدا "هل انت سعيد الان يا عمار؟" فأجاب بابتسامته المعهودا " يا سيدى السعاده نحن من نصنعها فالرضا سر السعاده وشكر الله فى السراء والضراء خير من الشكوى والبكاء على اللبن المسكوب , ياسيدى الارض والاهل والاوطان والذكريات كلها اشياء لا تشترى بالمال ولا يمكن تعويضها ولا تغنى عنها كنوز الدنيا ولكن ايضا ولأننى على يقين ان هذا قدر الله اذن فأنا مؤمن بقضاء الله وواثق فى ان فرجه سيكون عن قريب".

ثم ابتسم عمار وقال لى "ربنا يخليلنا مصر ويرزق اهلها خير لانهم فعلا يستحقوا خير" واخيرا طلب منى الدعاء لسوريا ولشعبها والدعاء له ان يعود سالما لوطنه.

نسيت ان اخبركم بأن الاجرة كانت حوالى تسعه وثلاثين جنيها وكان معى فكة ثلاثين فقط فأعطيته ورقة بخمسين جنيها على ان يأخذ الباقى ولكن الغريب ان ابن سوريا المحتاج لكل مليم يعينه على نوائب القدر رفض بشدة واصر ان يأخذ ثلاثين جنيها فقط وقال لى بالحرف الواحد "يا استاذى والله انا مسامح فى التسعة جنيه ده مايجيش من بعض كرمكم ده كفايه انكم بتسمحولنا نشاركم وطنكم".
 
لم استطع امام اصراره الا ان اوافق وقمت بتقييمه بتقدير خمس نجوم كأعلى تقدير موجود للسائق وكتبت للشركه عن مدى تميزه وعما فعل وطلبت منهم ان اضع مبلغا زائدا فى الرحله القادمه على ان تذهب الي عمار دون ان يعلم.

إنه عمار السورى .. فهل نحن منهون .. هل نفيق من سباتنا العميق وندع تلك العنجهيه غير المبرره ونترك ما كان يعبد اباؤنا واجدادنا من افكار وعادات جعلت منا شعبا يركع امام الوظيفه الميرى حتى وان لم تسمن ولا تغنى من جوع , شعبا يسجد امام الشهاده الجامعيه حتى وان كانت بلا نفع يذكر , شعبا يهوى "الانتخة" ويرفض الشقاء, شعبا يعاير بعضه البعض بأعمالهم واعمال ابائهم , شعبا يمتلك نعمة الوطن فيسخر منه ويلعن فيه.

عافانا الله واياكم ان نكون من هؤلاء ...
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط