الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الباشا!


دعونا نعترف ولو لمرة واحدة أننا شعب من الكسالى، وأن هذه الصفة التى تضرب بجذورها فى أعماقنا أبرز مظاهرها الكسل العقلى قبل البدنى.

ومثل الخطوط المرسومة على شاشة جهاز رسم القلب تسير أمور حياتنا فى نسق رتيب تقطعه أحيانًا طفرات أو ذروات لكن سريعًا ما نعود إلى سابق عهدنا وعاداتنا، لا نتغير وليس لدينا إرادة حقيقية لأن نتخلص من أمراضنا التى تنغص علينا حياتنا، وأبرزها تجاوز القانون والقفز عليه.

 ونحن لا نستجيب للقانون إلا بالجبر والإذعان، ويكون التغيير مؤقتا لأنه غير صادر عن الضمير أو التربية، ومؤقتا بتوقيت المؤثر الخارجى الذى هو غالبا سلطة قاهرة فإذا ما انزاحت هذه السلطة من فوق رؤوسنا نعود سيرتنا الأولى ..ونعود نسأل متعجبين لماذا؟! والإجابة ببساطة: لغياب إرادة المجتمع ووجود جماعات ضغط فئوية توافقت مصالحها على الاستفادة من القفز فوق القانون، وترتيب هذه الجماعات حقوقا لها لتمييز نفسها عن باقى أفراد الشعب.

والأدهى والأمر أن هناك اتفاقا غير مكتوب تقر فيه الدولة لهذه الفئات على تميزها «السلطوى» إما خشية من الدخول فى مواجهة مع هذه الفئات أو الحفاظ على معادلة مجتمعية – كاذبة – تضبط العلاقة ما بين هذه الفئات النخبوية (بوظائفها) وباقى المصريين الذين يعتقدون عن قناعة استقوها من الممارسة الحياتية أننا « شعب يخاف مايختشيش».. وما أقوله ليس محاولة للتفلسف ولكن للبحث عن أصل المرض والداء.

(1)
من قلب هذه الجماعات ولد الباشوات الجدد فى المجتمع المصرى وهم معروفون للجميع بوظائفهم التى يمكن حصرها فى عدد من الوظائف يمتلك أصحابها وجاهة السلطة وعصاها ويستخدمونها لترهيب من لا سلطة لهم ولا ظهر، وإطلاق هذا الحكم المتواتر على هذه الفئة بهذه الكيفية بالطبع خطأ فادح لأنه يطول قطاعات ووظائف بعينها فى الدولة المصرية دون تمييز ويتهمها بأنها تتجبر بسلطتها على باقى فئات الشعب.

 وإذا أردنا الكلام بدون تورية فالقارئ يفهم أننى أقصد وظائف القضاء والداخلية وجهات سيادية أخرى، وإذا سرت وراء العامة فى هذا الاتهام دون أن أقدم دليلًا أو إحصائية موثقة تتيح لى إطلاق هذا الحكم أكون غوغائيا، ولا أستطيع أن أنفى التهمة عن الصحفيين الذين انتمى إليهم والبعض يتهمهم بما هو أكثر من استخدام سلطة القلم التى يمتلكونها.

 وبناء علي ما سبق فالحقيقة التى لا أستطيع أن أنكرها هى أن أغلبية قضاة مصر بخير وكذا رجال داخليتها والمنتمون للجهات السيادية، أؤكد هذا حتى ولو لم يعجب هذا الكلام البعض لكننى أضيف إليه أن هذه الخيرية مرجعها الأساسى والأول الضمير الإنسانى والمهنى لأصحاب هذه الوظائف «المميزة».

 فإذا غاب الضمير يستغل صاحب هذا التميز بعض الحقوق القانونية التى تتيحها له مقتضيات وظيفته ويحمى بهذه الحقوق نفسه حال تجاوزه للقانون فى أمور بسيطة أو وصولا إلى حد الفساد.

 والشىء المؤسف أن الإعلام - وفى القلب منه الأعمال الدرامية - رسخ لهذه الصورة النمطية لبعض الفئات حين قدمها كأمر واقع ولم يقاومها إلا أعمال قليلة وظروف استثنائية أذكر منها على سبيل المثال الفيلم الذى قام ببطولته الراحل خالد صالح وحمل اسم «فبراير الأسود» ولم يترك العمل أثرًا فى ضمير المجتمع ربما لأنه كان فيلما كوميديا استقبله الناس كما يستقبلون نكاتهم التى يعالجون بها جروحهم المفتوحة والملوثة منذ عشرات السنين.

(2)
هل نحن مجتمع يتعافى أو على الأقل يبحث بجدية عن الشفاء؟! أم مجتمع يرفض الشفاء لأنه ارتاح للمرض وارتاح لمعايشته؟! الإجابة يمكنك أن تستطلعها فى حوادث الأسبوع الماضى والمعالجات الإعلامية والصحفية لهذه الحوادث، ودعنا نتوقف منها عند حادث المواطن المصرى مجدى مكين وأسألك: ألا تذكرك هذه الواقعة بأخرى تشبهها؟! أعتقد أن الإجابة الجاهزة فى ذهنك هى: «خالد سعيد» أما أنا فإجابتى أنها تذكرنى بواقعة سائق الميكروباص والضابط صلاح أشرف السجينى مع الاختلاف فى التفاصيل والملابسات والتوقيت، وأوجه التشابه تتلخص فى أن الواقعتين بدأتا بمشاجرة، وفى كلاهما كان ضابط الشرطة يرتدى الملابس المدنية وفى واقعة السجينى انتهت التحقيقات إلى أن الأخير كان يقود سيارته (منفردا) وأوقعته الظروف فى ملعب سائق الميكروباص (الموقف) وكبر على سائق الميكروباص أن يطلب منه قائد السيارة الملاكى (الذى لا يعرف هويته) أن يفسح له الطريق للمرور، وفى ظروف غاب فيها الأمن (بعد شهر واحد من ثورة 25 يناير) أضف إليها سيادة منطق البقاء للأقوى فى الشارع المصرى تطور الكلام بين سائق الميكروباص والضابط إلى «خناقة كلامية» لا يمكن فيها أن تحدد الأكثر تجاوزًا وما لبثت الشتيمة أن جرت الطرفين إلى معركة جسدية انضم فيها زملاء السائق إليه وتكاثروا على الضابط من منطلق العصبية والمجاملة فكادوا يفتكون به فأخرج الأخير مسدسه للدفاع عن نفسه وإيقاف الاعتداء وأطلق عيارًا أصاب كتف السائق.. وفجأة اكتشف المجتمع أن الرصاصة انطلقت من مسدس ميرى يحمله ضابط شرطة فكان هذا كافيا أن يتبارى الجميع فى إدانته وعلى رأسها وسائل الإعلام والصحافة التى عاشت فى تاريخ الواقعة الحالة الثورية ومنها صحيفة قومية شهيرة يجيد رئيس تحريرها ركوب موجة المشاعر، جماهير أو سلطة أيهما أقرب..

ومع الهدوء واكتشاف الحقيقة ارتد المجتمع فى الاتجاه الأخير يمجد فى رجال الداخلية والشرطة ويتطوع أفراد من هذا المجتمع فينشئ صفحة «كلنا صلاح السجينى» ردا على صفحة «كلنا خالد سعيد».. التى تهاجم الشرطة.

(3)
.. قلت من قبل أن قضية مجدى مكين مختلفة ولا أقصد بمشابهتها بقضية أشرف السجينى أن أبرئ ضابط الشرطة ورجاله فى الواقعة الأخيرة والتى بدأت أيضا بمشاجرة مع مجدى مكين واثنين معه وتبادل الجميع السباب بالأم والأب فى الشارع، ومكين وصاحباه لا يعرفون أنهم ضباط شرطة (مباحث) يرتدون ملابس مدنية ويستقلون «ميكروباص» طلبوا من مكين الذى يسير بعربة كارو يقودها حصان أن يفسح لهم الطريق لأسباب مطاردة أو غيرها واستفزهم رد الأخير وتطور الأمر إلى معركة لفظية تطورت أيضًا لمعركة جسدية لكن كانت الغلبة فيها هذه المرة لضابط الشرطة ورفاقه (على عكس واقعة الميكروباص) وبعدها تم اقتياد مكين وصاحبيه إلى القسم، وهذه الرواية وردت على لسان ملاك الأبن الأكبر للضحية أنقلها كما وردت على لسانه فى مجلة «المصور» القومية عدد الأسبوع الماضى الذى حقق الواقعة وأبدى تعاطفًا كبيرًا مع مكين «الضحية» وأسرته وهاجم الداخلية وذكرها بأخطاء الماضى القريب وهى جرأة تستحق عليها «المصور» التحية.

وأعود وأقول إن الصحافة والإعلام – حتى الرسمى – تعاطف إلى حد كبير مع مجدى مكين وأدان رجال الشرطة دون انتظار لما سوف تسفر عنه أعمال التحقيقات ومرد هذه العجلة ليس فقط المعلومات الأولية عن الواقعة التى صدّرت صورة بشعة لممارسات تعذيب وقعت ضد بائع متجول كبير فى السن ومريض وانتهت به إلى أن أسلمت روحه لبارئها هذه الصورة التى روجتها وسائل التواصل الاجتماعى بالفيديوهات واللقطات الثابتة والنصوص والتعليقات، ليست فقط ما دفعت المجتمع لاستباق نتائج التحقيقات وإدانة رجال الشرطة ولكن يضاف إليها صورة الداخلية ورجالها التى ارتسمت فى ذهن عامة المصريين الذين كانوا قبل ثورة يناير يخشى الواحد منهم الاقتراب أو المرور أمام قسم شرطة فما بالك بدخوله.

وإذا كان الإعلام مسئولا بدرجة ما عن ترسيخ هذه الصورة التى يشوبها كثير من المبالغة كانت متعمدة قبل ثورة يناير من خصوم الشرطة لتهييج الجماهير، فبعض رجال الشرطة يؤكدونها أحيانًا عبر ممارساتهم ظنا منهم أنها تضفى الهيبة عليهم وتلقى الرعب فى قلوب المجرمين، ويلجأ آخرون للإيذاء البدنى لتعويض الغياب الجزئى للوسائل العلمية فى التعامل مع الجرائم وفك غموضها.

(4)
إدانة ضابط شرطة إذا ثبت ارتكابه جريمة تعذيب مواطن أو ترهيبه داخل قسم شرطة أو خارجه لن يهد أركان الدولة ولكن العكس هو الصحيح.

وأن يجتمع وزير الداخلية بمديرى البحث الجنائى فى المديريات (كما حدث بعد الواقعة) ويطلب منهم أن يعيدوا تأهيل أنفسهم علميًا لمجاراة التطورات التى طرأت على الجرائم، أو يحسنوا التعامل مع المواطنين ليصلحوا ما أفسدته حوادث الماضى، ليس هذا فقط هو المطلوب، ولكن مطلوب من أذرع السلطة فى الدولة، كلها، أن تدرك أن عصر الباشوات الجدد يجب أن ينتهى ويسقط كما سقط الباشوات القدامى بعد ثورة يوليو 1952، هذا هو درس الواقع الذى يجب أن يستوعبوه قبل أن يتجاوزهم ظرف الزمان، وفى المقابل على المجتمع أن يدرك أن إسقاط تميز هذه الفئات لا يعنى التجاوز والجرأة غير المبررة تجاهها وقد رأينا من هذا الكثير بعد ثورة يناير ولن يكون هذا إلا بإرادة شعبية تستجيب لها الإرادة السياسية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط