الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فى مجمع التحرير لازم يكونلك كبير


لأننى منذ أن عملت فى الإعلام وتأكد لى أنه عالم المعارف والوسايط والمحسوبيات، فقد أخذت على نفسى عهدا أن أكون أنا أمة الله كريمة وأن أتعامل وكلى تواضع بأننى مواطنة مصرية بلا ريش على رأسها.

كلفنى ذلك النهج مشاعر سلبية تتراكم كلما مر بى العمر وترهقنى كلما اضطررت للتعامل مع أي مصلحة حكومية، ولكننى كنت دائما أشحذ العزم من تلال العزة والكرامة التى نشأت فيها وعليها.

وكنت كلما أنجزت أي مهمة فى مصلحة حكومية أربت على كتف نفسى مثلما كان يعمل الفنان الرائع رحمه الله إبراهيم عبد الرازق عندما كان يقبل ذراعه ويقول له "حلاوتك يا ذراعى"، ومضى بى عمرى وتوقف اليوم عندما واصلت العمل بمبدأ "أنا مواطنة عادية ولازم أجدد جواز سفرى من غير أي وسايط ولا محسوبيات".

وبالفعل ذهبت إلى قسم المعادى التابع له محل إقامتى الحالى، وقابلنى ضابط وسألنى: "إنتى رايحة فين يا مدام؟"، فأجبته على الفور وبينى وبين نفسى أقول "يجعل كلامنا خفيف عليهم"، فقلت: "عايزة أجدد الباسبور حضرتك"، فنظر لى نظرة كلها استنكار وقال: "حضرتك القسم مبيعملش باسبورتات"، فلاحقته وقلت: "لا أنا مش هاعمل أنا هاجدده حضرتك"، فبادلنى السؤال بسؤال: "لما احنا ياهانم مبنعملش من الأصل يبقى ازاى هنجدد؟ حضرتك يا إما تروحى قسم البساتين يا إما مجمع التحرير".

شكرته وفاضلت الاختيارين ووجدت أحسنهما مجمع التحرير العتيق، وفى اليوم التالى صحوت مبكرا ومعى أوراقى وتوجهت إلى حيث المسعى والهدف، ووجدت أناسا متجمعين فى طابور طويل عريض، وبما أننى لم أكن أعلم إلى أين أتوجه، فسألتهم: "إيه الطابور ده يا جماعة؟"، فرد شاب وسيم متبسما وقال: "يا طنط ده طابور الأسانسير أصله بيشتغل ساعة واحدة بس فعايزين نلحق".

وحسبته يسخر منى، إلا أن الكل أكد على كلامه بألم، كما أن بعضهم دعا على الظلمة ولم يحددهم، فى حين تأفف كثيرون من الوقفة ومن المجمع واللى فيه، وعندما سألت: "أنا عايزة أروح أجدد جواز السفر أقف معاكم فى الطابور ولا اعمل إيه؟"، فردوا فى صوت واحد: "يا ست الكل ربنا راضى عنك إنتى مش محتاجة أسانسير ده دور واحد اطلعى على رجلك".

وكأنهم بشرونى بالفوز بالياناصيب، وجريت وبالفعل وصلت إلى حيث أبحث، ووجدت الدور "على كل لون يا باتيستا زى مابيقولوا"، بدءا من المجند وحتى أصحاب الزراير اللامعة البراقة، وبأدب معتادة عليه فى تعاملى سألت عن المكان فدلونى عليه، ووجدت هناك من ينادونه بالعميد فألقيت السلام ورد متأففا وقال: "اؤمرى"، قلت: "حضرتك عايزة أجدد جواز السفر"، فرد سريعا: "الباسبور"، فتداركت حتى يعلم أننى أعرف لغات واننى متعلمة وبأفك الخط وقلت: "ييس"، وساعتها قال لى ووجهه يحمل كل معانى اللااهتمام: "بطاقة حضرتك".

وبسرعة الساحر أخرجت البطاقة من جيبى، ونظر إليها ونظر لى وقال: "بتشتغلى فى التليفزيون وفى قطاع الأخبار"، ولم ينتظر ردى ولا حتى نظر لى ليرى إيماءتى بتأكيد كلامه، وأخرج استمارة من درج مكتبه وقال لى: "املى ديه بره واقعدى ادامى لغاية مييجى مندوب التليفزيون يكمل معاكى"، فابتسمت له وطلبت منه قلما كى أفعل ما طلبه، وساعتها جاءت النظرة الجارحة والتى تقول معانيها: "كيف تجرؤى على ذلك"، ولولا أننى رأيت القلم على مكتب معاليه لما كان وافق على إعطائى إياه.

وحتى يزيد إذلالي قال: "تملى الاستمارة وتجيبى القلم بسرعة فاهمة؟"، وعلى الفور قلت له: "طبعا يا باشا كتر خير حضرتك"، وفعلت ما أمرنى وانتظرت، وإذا بى أرى رجلا ومعه سيدة يدخلان المكتب ويجلسان ويبدو أنه زميل لهم أو شخصية أو أى شىء ممن يحسب لهم حساب، وللأسف قبل أن يدخلا مكتب مولانا صاحب النعم كان قد خرج هو، وانتظر هذا الشخص ذو الشخصية خمس دقائق معدودات، فقد كنت أراقبه لعقد مقارنة بينه وبينى، وأحسب أننى كنت أتوقع نتائجها ولكننى كنت اضحك على نفسى وأوهمها بأننا كلنا متساوون ولما لا ومن بيدهم الأمر أصحاب عدل ومبادئ.

وفجأة زهق صاحبنا وأخرج موبايله من جيبه وطلب شخصا ما وقال بصوت عالٍ: "إنت فين يا باشا أنا فى المكتب"، واستكمل: "آه مكتبك الخربان فى المبنى المعفن"، واتبع كلامه بضحكة هزت أركان الدور كله أكملتها رفيقته بنظرة رضا وحب له جعلته يقول: "يالا تعالى بسرعة أنا مستنيك خلى يومك يعدى".

وكأنه ركب الريح، إذ وجدته أمامه و"ايشى أحضان على قبلات" على سلام بالعين فقط على صديقة هذه الشخصية، وأنا أنظر وكلى حقد وكراهية، وفى لحظة تحول المكتب إلى خلية مجندين على رتب لا أعرف تصنيفها، كل مهمتها أن تعرف وتعمل ما يريده صاحبنا هذا، ونظرت وتحسرت فوجدته ينظر وكأنه علم ما بداخلى، فقال لى بسخرية: "حسين لسه ماجاش خليكى مكانك لغاية مييجى"، وبلا حول ولا قوة لى قمت واقفة وقلت له: "طب حضرتك أنا هاستناه ليه؟"، ولم أكمل إذ قال: "هتستنيه عشان هو المسئول عنكم بس آدى السبب"، قلت له: "طب ممكن أطلب من حضرتك خدمة؟"، فتنهد وفهمت أنه يريد منى أن اقول بسرعة، فقلت له: "حضرتك بما إنى هاستنى الأستاذ حسين ولا هو ليه رتبة أطلقها عليه؟"، ولا أدرى لماذا شعرت لوهلة أنه فهم كلامى على أنه استهزاء، فتداركت وقلت: "لا والله أنا جاهلة فى حكاية الرتب ديه قولى حضرتك"، وأكملت كلامى وقلت: "أنا كنت عايزة أعمل بلاغ فى مباحث الأموال عشان اتنصب عليا"، وكأنه قد جاءته الاستغاثة، فقال لى: "الدور الحادى عشر روحى وتعالى يكون حسين جه"، قلت له: "أحسن ييجى ويمشى ومياخدش الطلب"، قال لى: "بسرعة يا حاجة روحى وتعالى هيستناكى ياله بسرعة".

ونظر إلى الشخصية الجامدة، وكأنه يطلب منه العفو والمغفرة، وكأنه أيضا يشهده على البلاوى التى تضطره ظروف عمله المضنى أن يتعامل معها، ومشيت قبل أن يتطور زهقه منى إلى الأسوأ الذى لا أرضاه، ونزلت إلى الدور السفلى لكى آخذ المصعد، ولكنه كان قد انتهى من ساعة عمله الوحيدة، وأسقط فى يدى كيف سأصعد إلى هذا الارتفاع على السلم، وقبل أن يقتلنى الحزن وجدت سيدة تقول لى: "تعالى معايا فيه مصعد تانى"، ومشيت معها وكلى امتنان، ووجدت المصعد فى مكان يؤكد من اختاره أنه رجل صاحب حيل فقد صممه فى مجهل من مجاهل المبنى العتيق وتصعد إليه بثلاثة سلالم متسخة ورائحة المكان عفنة وكأنه لم يعرف النظافة منذ بناء المجمع، وبما أننى لا أملك البدائل فقد وقفت مع هذه السيدة التى اتضح أنها موظفة وكانت فى مهمة لشراء إفطار بكميات تبرهن أن القسم كله سيأكل معها.

وبعد انتظار ما يقرب من ربع ساعة، هلَّ علينا المصعد بعامله العجوز الذى يستمع ويسمعنا أم كلثوم الجميلة ومن بعدها العندليب، وسألته: "مباحث الأموال فى أنهى دور يا افندم"، قال لى: "فى التاسع والعاشر"، قلت له: "حضرتك بس العقيد قالى الحداشر"، فالتفت لى وقال: "هما دول عارفين حاجة، حضرتك تنزلى التاسع لقيتى طلبك خير ملقيتيش تطلعى العاشر ومتخبطيش عليا ده هو دور تطلعيه فاهمة؟".

وبالطبع وافقت ونزلت التاسع ووقعت عينى على حوائط قذرة وأرضية أقذر، واستوقفنى مجند وسألنى: "رايحة فين؟"، فأجبته فقال لى: "شمال فى يمين"، وذهبت حيث قال لى، وقبل أن أذهب جاء رجل مرتديا زى الشرطة، فهب الراجل المجعوص الذى كان يحدثنى وسلم عليه وسأله بأدب مبالغ فيه: "إنت جيت ليه معاليك إحنا لسه كنا هنبعتها لغاية بيت حضرتك مع المجند محمد".

ومشيت ولم أعرف ما هى التى كان "سيبعتها"، ووصلت إلى مسعاى وقال لى: "خير عايزة إيه؟"، قلت له: "عايزة أعمل محضر"، قال لى: "بطاقتك"، فنظر لى محتقرا إياى وقال: "فى مكان زى ده ومنصب مدير ويضحك عليكى، خليتى إيه للجهلة؟"، وتبسمت له وقلت: "مايقع إلا الشاطر"، فقال لى: "طب يا شاطرة إحنا البلاغ عندنا لأموال وأراضى الدولة، غير كده تروحى مديرية أمن القاهرة، عارفاها فين؟ فى باب الخلق، وتروحى إدارة اسمها النصب تقدمى بلاغك وابقى قابلينى لو رجعلك حقك".

ولم أعقب على سخريته إلا بسؤالى: "بس العقيد اللى فى الجوازات قالى آجى هنا؟"، فنظر لى وكله قرف وقال: "هو إيه اللى عرفه بيفتى وخلاص ده شغلى، فأنا اللى فاهم وعارف، ماشى؟"، قلت له: "طبعا حضرتك خبير".

ورجعت إلى حيث كنت ووجدت العقيد فى مكتبه واضعا قدما على أخرى وممسكا بيده ما يطلقون عليه السيجارة الإلكترونية، وقبل أن أسأله قال لى: "لسه مجاش استنى فى مكانك"، وعقب: "خلصتى؟"، فأومأت برأسى بالرفض، فقال لى: "مش مشكلة تعالى بكره"، ولم ينتظرنى كى أقول له ما وصفه به زميله لأننى كنت أريد أن أرى كيف سيتعارك أصحاب النجوم البراقة على أكتافهم.

وجلست وطال الانتظار حتى أهل علينا بدر الدجى الذى أصر عندما عرفته بفراستى، وقلت له: "عم حسين؟"، قال لى بسرعة: "نعم"، قلت له: "الطلب أهو"، قال لى: "إنتى تقعدى لغاية ما اخلص اللى معايا وبعدين أجيلك"، وساعتها قال له العقيد حسين: "المدام مستنياك خلصلها ورقها"، فقال له على الفور: "حاضر معاليك أنا قلتلها دقيقتين وأناديلك"، وتواصلت الدقائق لتكمل نصف ساعة، ثم أشار لى عم حسين بأن أقف أمام شباكه، وجريت ملبية وقدمت كل الأوراق والصور والنقود وتلوت الشهادة وخرجت وأنا على قسم بألا أعود إلى مجمع التحرير إلا وأنا بصحبة كبير.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط