الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عودة إلى المحلية


نجيب محفوظ غاص بعمق فى الحياة اليومية للمصريين فخرج بأدق تفاصيلها إلى ذروة العالمية فتأكدت مقولة جغرافى مصر الفذ جمال حمدان " أكثر الأفكار محلية أكثرها عالمية "...وتوجد رواية شهيرة للكاتب الصينى مويان الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 2012 أيضًا بعنوان" الذرة الرفيعة الحمراء" بمثابة صرخة فى وجه العولمة وتأكيدًا على العودة للأصالة وإن الابداع العالمى هو فى أصله محليًا بالضرورة. من خلال دمجُه الواقعية بالحكايات الشعبية والتاريخ بالمعاصرة فى توليفة سحرية واحدة.

وفى مقال يعود لـ 1مارس 1930 بجريدة السياسة الأسبوعية للكاتب محمد حسين هيكل حول (هجرة الريف إلى المدينة أسبابها وخطرها وضرورة تلافيها)، مما يؤكد قدِم المشكلة – الهجرة الداخلية - تزامنًا مع الكساد العظيم بأمريكا Great Depression 1929 واضطراب اقتصادى ألقى بظلاله على العالم كله.

وكيف؟ أن العالم تخلى عن بيئاته المحلية وعلاقة ذلك النضوب الفكرى المحلى بالهجرة للمدن وتجريف الريف فتاهت المفاهيم وتاهت معها المحلية والخصوصية والبصمة الذاتية للمكان وساهم ذلك فى ظهور وانتشار العولمة وتدويل الأفكار...فكيف؟ لمصر أن تستغل تلك المقاربة وتعود إلى محليتها لاعادة صياغة الشخصية المصرية وتخرج بها إلى العالمية بمفهوم جديد فاعل ومؤثر ومستدام.

وتتجلى أخطر مشاهد الهجرة من الريف إلى الحضر فى تكبير وتعظيم وترسيخ المركزية آفة الآفات ومشكلة المشاكل فى مصر، الجميع يجذبه المغناطيس فى المركز – العاصمة – التى غالبًا تترداف كمًا وكيفًا مع البلد ككل، فتاريخ مصر الممتدة ما هو إلا تاريخ عاصمتها المُكدسة الشديدة التبلور والمطردة الكثافة، غير القابلة للطرد واعادة التوزيع حال تمددها أكبر من طاقتها الاستيعابية، ويتجلى ذلك فى كتابات المؤرخين الأوائل أمثال الجبرتى وابن اياس.

هذا، وبعد استعراض جدوى العودة للمحلية وتعريف المركزية المرهقة ...فكيف؟ يتم التمهيد والانتقال نحو اللامركزية دون حدوث مشاكل أعظم منها؛ فتُقصينا عن استكمال الحلول كما حدث ويحدث ونتمنى ألا يكون مستقبًلا؟! وكيف أن الفكرة المحلية هى توطين اللامركزية على حساب المركزية المسيطرة حاليًا؟ كيف نجعل/ نقنع القائمين على نظام مركزى بتاريخة وجغرافيته التخلى عن تلك المزايا ويسمحون بتفتيت سلطاتهم وتوزيعها لمستويات مختلفة من السلطة؟! وهنا تكمن مقاومة فكرة اللامركزية من داخل النظام المركزى؟ كيف يحدث الانتقال من المشكلة لحلها دون مقاومة، أو بمقاومة يمكن استيعابها وتضييق نطاق تأثيرها وافقادها فعاليتها.

المحافظات : اطلاق أيدى المحافظين فى تنفيذ خطط تنموية فى إطار الخطة الكلية لمصر، فمدارس وجامعات المحافظات لابد وأن تخدم فعليًا وتُخدِم على النشاط الزراعى أو التجارى أو الصناعى أو الثقافى بالمحافظة، وتكون بمثابة بيوت خبرة أو مراكز بحث وتطويرR&D لتلك الأنشطة، فمثلًا: محافظة مثل دمياط كنموذج ناجح ورائد فى صناعة الأثاث وتنَافِس فى سوق دولى يعمل بفكر مختلف، دعونا نسبقهم مرة بخطوة أقصد المنافسين...لماذا؟ لايتم طرح مناهج متخصصة فى المدارس الفنية بتلك المحافظة تخدم تلك الصناعة، وأن تكون أيضًا المدارس الفنية الزراعية الانتاجية ظهير تعليمى وتقنى يطور من صناعة الألبان وخاصة الجبن الدمياطى الذى يعتبر علامة تجارية Trade Mark ويتم فتح أسواق عالمية للمنتج عالى الجودة - سواء أثاثا أو منتجات ألبان- الذى يحمل صنع فى مصر.

محافظة كفر الشيخ : رائدة زراعة الأرز والمزارع السمكية...معامل الأبحاث فى جامعاتها ومدارسها المحلية القريبة لابد وأن تعمل على انتاج وتطوير سلالات جديدة وبحث آخر ما توصل إليه العلم فى زراعة الأرز والاستزراع السمكى؛ بُغية تحقيق الاكتفاء الذاتى والتصدير وتوفير عوائد اقتصادية...الخ.

السياسة السكانية فى مصر...(لابد أن تكون سياسة تخدم اللامركزية فكرًا ومنهجًا وتطبيقًا) طالما نفكر أن محافظات مصر يلزمها نفس التدخلات لحل أى مشكلة بها، كأننا نعالج جميع المرضى بعلاج واحد!، لذلك يجب مراعاة ظروف وبيئة وعادات وتقاليد وموروث وماض وحاضر وجغرافية كل محافظة، ومحاولة رسم ملامح لمستقبلها طبقًا لجرعات وتزامن الحلول والتدخلات.

فمثلًا: المحافظات ذات الأنشطة الاقتصادية كثيفة العمالة حتى فى ظل الآلات المتقدمة – مدينة المحلة الكبرى – رائدة صناعة المنسوجات، لابد أن تنتقل إلى مفهوم صناعة الموضة والذوق والتصميم فالعالم أضحى يستخدم تلك المفردات عوضًا عن (الغزل والنسيج) الذى انتهى فى العالم كله. والمحافظات التى تقوم على الزراعة...لابد أن يتم تفصيل سياسات سكانية على مقاسها...نعم تفصيل كى يتم اعادة توزيع العمالة داخل المحافظة، ولايتم كما هو حادث ويحدث من ماضينا الموروث الهجرة والانتقال اليومى بين المحافظات فى فوضى عارمة...مما يمثل ضغطا على مرافقنا من مواصلات وبنى تحتية وجهد بشرى مفقود لا أحد يكترث له ولا يدخل غالبًا فى حسابات أغلب المسئولين! بالاضافة لارتفاع نسبة حوادث الطرق...المواطن المرتاح يُبدع قطعًا فى عمله...هذا ينطبق على محافظات طاردة للعمالة فى دلتا مصر وصعيدها.

أما بالنسبة للمحافظات التى تتسم بأعمال المال والأعمال والشركات والاستثمار فيتم تفعيل نُظم تعليمية
( مدارس فنية تجارية يستوعبها سوقها المحلى القريب، وجامعات تُعدل برامجها الدراسية كى تتسق مع اللامركزية كفكر جديد لتخدم كل الأُطر الإدارية سابقة الذكر ...مثل برامج فى القانون والتفاوض والمحاسبة وأسواق المال...الخ).

وبهذا نضع مصفوفة تنموية لمحافظات مصر فى صورة كاملة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا...يراها بوضوح صُناع ومتخذ القرار؛ فتكون هادية ومرشدة لهم فى دعم واتخاذ قرار صائب أو تصويب قرار خاطىْ، ودعونا الآن نوضح ببساطة كيف يتم تشبيك أو صنع شبكة علاقات تربط المحافظات ببعضها؛ للحفاظ على رؤية واحدة لبلد يرنو للنمو من خلال إعادة تركيب رؤى فرعية تم تفكيكها سابقًا فى تشريح الوضع التنموى للمحافظات ومراعاة الفروق المكانية والزمانية والثِقل السكانى واعادة النظر حوله من خلال مدخل مختلف للقضية السكانية التى اعتمدت لسنوات طويلة على نوع واحد من العلاج يأخذه كل المرضى مع عدم مراعاة الخصائص الخلفية للمريض وهذا للمقاربة أعنى بالمريض هنا المحافظة.

ولكى يتحقق هذا بسهولة ويسر ولا يحدث له مقاومة مجتمعية أو من المستفيدين بالمركزية الحالية لابد من خطوة تأكيدية لجدوى الحلول المطروحة وهى ثورة إدارية على مستوى المحليات فى مصر تكون فى اطارها العام مكافحة الفساد...دعونا نعرف الفساد أولًا فى معناه الضيق (القريب) فالفساد هو الإساءة فى استخدام السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص.

فمثلًا: محافظة كمحافظة البحيرة بها عدد من المدن والمراكز، وكل مدينة أو مركز لها رئيس مجلس مدينة تكون مسئوليته واضحة بحكم الدستور والقانون....وأقترح أن يكون منهج العمل وفق الفلسلفة الاطارية الآتية:
كل رئيس مدينة أو حى يأتى لتنفيذ أهداف محددة ويتم تقييم انجازه بدورية معتمدة، وإذا نجح فيها يتم نقله لرئاسة مدينة أخرى أو حى آخر فى نفس المحافظة؛ بُغية القضاء على المحسوبيات وتكوين بؤر الفساد...وهكذا يتم عمل تدوير - للكفاءات - Rotation Staff لكل رؤساء المدن والأحياء والمناصب ذات الحساسية المشابهة تحت إدارتهم – لاتسمح بتكوين شلِة – وكم نتمنى أن يتم ذلك فى الجهاز الإدارى للدولة بهدف اكساب الخبرة للموظفين والتدريب الداخلى بالمؤسسات فى نطاق التوصيف الوظيفى طبعًا، وبما يخدم فكرة التدريب التحويلى وسريان العمالة الزائدة بين قطاعات الدولة، وقد أشرت إليها تفصيلًا فى مقال سابق.

وأخيرًا... " لعل من أبرز ملامح الشخصية المصرية، المركزية الصارخة طبيعيا وإداريًا. وهي صفة متوطنة لأنها قديمة قدِم الأهرامات، مزمنة حتى اليوم " جمال حمدان.

الخلاصة...جربنا المركزية زمنًا مديدًا ولم تُجد ...فلتأخذ اللامركزية فرصتها كاملة هى الأخرى...تلك هى العدالة والتوازن فى تبنى الأفكار التى نأمل أن ترتقى ببلدنا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-