الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حينما نكون أسرى الغوغائية والديماغوجية


حالة الفوضى التي نعيشها الآن في كافة مفاصل حياتنا بدءًا من أننا نعيش التراتبية والتكرار والبيروقراطية والإهمال والفساد وانتهاءً في التفكير في كيفية الهروب من الذات والأهل والواقع والوطن.... الخ، جعلنا لا نفكر إلا بالحياة الافتراضية التي يتم تصويرها لنا على أنها المستقبل الذي ينبغي الوصول إليه مهما كلف ذلك من عدمية الضمير والأخلاق على أساس الميكافيلية "الغاية تبرر الوسيلة". وهنا تكمن الخطوة الأولى نحو الحياة النمطية التي لا وجود لها سوى في مخيلتنا والبعيدة كل البعد عن الحقيقة.

يعلموننا ونحن صغارًا "حتى تعبر الكوبري، بوس يد الدب" أو "وأنا مالي" وغيرها الكثير من التقربات التي تجعلنا لا نفكر سوى بنفسنا والوصول في النهاية إلى حالة من الفردانية القاتلة للذات قبل الآخر والمجتمع. الإنسان مجتمعي بطبيعته ولا يمكن له أن يعيش بعيدًا عن الآخر مهما حاول من جهد واقنع ذاته بذلك، فأنه في النهاية سيتحول إلى ذئب يفترس أخاه ومن حوله وبتحول إلى وحش اللوثايان كما في الأساطير. وهذا ما نعيشه في راهننا بكل ما للكلمة من معنى.

نجحت الحداثة الرأسمالية في نشر وفرض ثقافتها الفردانية في مجتمعاتنا وذلك باتباعها الكثير من الوسائل وخاصة الإعلامية منها. إذ، أنها اقنعتنا بأن الحرية غير موجودة سوى عندها وما نعيشه ما هو سوى مجرد سراب، ورحنا نقلد ونقلد الغرب في مأكلهم وملبسهم وشكلهم وحريتهم وأغانيهم وطريقة نومهم وأعيادهم علَّنا نعيش الحب في عيد الحب ضمن الفوضى "الهدامة" الخلاقة والدمار والخراب الذي بات جزءًا من يومنا، وما هو بعيد الحب لكنه بات عيد شعائر الموت البطيء الذي فُرض علينا ونحن نعيش في أرض الحضارة التي علمت العالم العلوم كلها وخاصة معنى الحب قبل آلاف السنين من عشتار وإينانا إلى ايزيس حينما كانوا هم يعيشون مرحلة التحول الإنساني.

الديماغوجية والغوغائية والسفسطائية والشعبوية ما هي إلا مصطلحات غريبة المنبع عن واقعنا وحقيقتنا التاريخية في الحضارة التي نثرنا عليها الغبار بأيدينا وجعلناها من الماضي ونسخر من الذين يتمسكون بقشة الضمير والأخلاق ونقول عنهم "دقة قديمة" ونحثَّهم على الارتباط بالمستقبل وترك الماضي لأنه ليس سوى تأخر عن التقدم والمدنية والتكنولوجيا. 

إننا أمام هجمة فكرية وأيديولوجية يريدوننا ألا نفكر بأي شيء وأن فقط نستهلك ما ينتجونه لنا ولا نفكر سوى بالأكل واللباس وتسريحة الشعر وأي من الفريقين سيفوز وهل أنت برشلوني أم ريال مدريدي أو هل أنت زملكاوي أم أهلاوي وكل شيء وحتى العلاقات الاجتماعية باتت من الماضي ولم نعد نكترث بالأخ والأخت والأب والجيران ولا همَّ لنا سوى أن يكون النت في أيدينا ونبحث عن الأصدقاء في العالم الافتراضي ونبتعد عنهم في الواقع. نلهث وراء الحرية الشكلية ونترك حرية الإرادة والفكر، نركض خلف الحب والعشق اليومي في عالم النت ونسخر من العشق الحقيقي في التضحية من أجل المجتمع والوطن والآخر الذي هو أنا في نفس الوقت، الذي لولا وجوده لما كنت موجودًا بالأساس. 

أمام هذه الهجمة الفكرية لا بدّ لنا أن نكون أصحاب فكر خلاق وفلسفة حياتية خاصة بنا تتوافق مع الفكر الآخر ولا تكون أسيرةً له، فلسفة تجعلنا منتجين وغير مستهلكين ونكون فيها نعشق الحياة بدلًا من لعنها، نعشق فيها الوطن بدلًا من الهروب منه ونحب الآخر (حبيب أو حبيبة) بدلًا من استغلاله لمصالح آنية. حتى الطيور حينما تعشق تبني أعشاشها ولا تبحث عن حب رخيص في أعشاش الغير، كما يقول السيد أوج آلان. الحياة عشق والعشق حرية، والذي لا يناضل ويكافح من أجل الحرية لن يعرف معنى العشق والحياة، العبد والأسير الذي لا يعرف معنى الحرية بدوره لا يدرك معنى العشق. علينا التخلص من الديماغوجية في الحياة والفلسفة والعشق، لأنها لن تؤدي سوى إلى الكلام الفارغ والمعسول الذي لا نتيجة منه. 

الليبرالية، التي دينها المال ثم المال ثم المال، تسعى لصنع الانسان الفرداني الديماغوجي الغوغائي وتبعده عن التاريخ الذي هو ليس سوى عبارة عن أرقام وحوادث حصلت في الماضي، وتجعله لا يفكر إلا بالمستقبل الافتراضي. هذه هي الحداثة الرأسمالية التي تروج لنا على أنها نهاية التاريخ وصراع الحضارات وعلينا قبول الثقافة الغربية الاستعلائية. نقيض فردانية الليبرالية هي مجتمعية وأنسنة المجتمع المرتبط بالتاريخ والحاضر والمستقبل، لأن الحاضر هو نفسه التاريخ والمستقبل والتاريخ هو الحاضر الذي نعيشه لبناء المستقبل، والتاريخ هو عبارة عن حاضر عشناه لبلورة المستقبل. وهذا لن يتم إلا ببناء المجتمع السياسي الاخلاقي يكون فيه الفرد أساس المجتمع، وبناء المجتمع هو هَمّ وشغله الشاغل للفرد. حينها نعي وندرك عشق الحياة ومعنى الحقيقة والحرية. وغير ذلك سنكون أسرى للديماغوجية السلطوية التي تجعلنا نعيش الأحلام والوعود المستقبلية التي لم ولن تتحقق البتة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط