الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

البنية التحتية للفِكر العربي .. والتدمير الذاتي


شدتني عبارة للصديق العزيز د. عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق في محاضرة من سلسلة محاضراته عن "العلم"، وهي " المستقبل ليس زمن ننتظره ولكن واقع نصنعه"، وهي عبارة تلخص بدقة الهوة الشاسعة في الفِكر العربي بين الواقع والمأمول ، فمن نراه ونلمسه من زمن في كثير من البلدان العربية والإسلامية واقع سيئ يتحول من يوم إلى يوم إلى أسوأ بسبب تغييب البنية التحتية في الفِكر العربي سواء عن عمد بفعل حكام طغاة وفاسدين لا يسمعون سوى صدى أصواتهم فقط ، ويرون في أنفسهم وبطانتهم أنهم الأعلون والأدرى ببواطن الأمور.

ومنهم إحقاقا للحق، حكام لا يقلون خطورة عن العملاء لانهم يرتكبون كل يوم حماقة في حق أوطانهم بتغييبهم الممنهج للشعوب عبر سياساتهم الإدارية وأبواقهم الإعلامية ومناهجهم التعليمية ، فحلت الخرافة محل العلم، والتجارة الرائجة بالدين محل الخطاب الديني المعتدل الذي يحض عليه الإسلام دائما ، وأصبحت التجارة بالشعوذة والدجل تجارة رابحة تلهي الشعوب عن مستقبلها وتعميها عن حقيقة حاضرة ، وتنسيها إنجازات ماضيها ، لدرجة أن أصبح الجهل للاسف عنوانا للمرحلة ، وهذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن نواجه بها أنفسنا وحكامنا إذا أراد العالم العربي والإسلامي أن تقوم لها قائمة إذا كان ذلك ممكنا.

فالحرب الجديدة التي تستهدف العالم العربي والإسلامي هي حرب فكرية في الأساس لتغييب الوعي والإرادة والعلم وأصول الدين الصحيح .. نحن نعيش في مرحلة تستهدف اسقاط العرب والمسلمين وتدميرهم ذاتيا ، بتشتيتهم في حروب طائفية ومذهبية تارة ، وحروب الجهل والتجهيل تارة أخرى، عبر الأدوات الحديثة والمتطورة مثل وسائل التواصل الاجتماعي والأبواق الإعلامية المأجورة ووسائل الاتصال الحديثة والتي ستستحدث ، " فتغيير الفِكر في رأيي يعني بالضبط تغيير مصير ".

فالحرب تبدأ بفِكرة والإنجازات العلمية تبدأ بفِكرة والإرهاب المعنوي والمادي ينطلق من الفِكر ليدمر ويقتل ويذبح ويفجر ، انظر حولك لترى كم من دول تم تدمير بنيتها التحتية بالكامل في حروب خلفت وراءها ملايين القتلى والجرحى والمصابين ولكن هذه الحروب لم تستطع أن تنل من بنيتها الفكرية وإرادتها الذاتية للإصلاح وتغيير الواقع السيئ والمرير إلى مستقبل أفضل ولنا في اليابان والصين والنمور الأسيوية وغيرها قدوة حسنة ...

هل تعلمون أنه لا يوجد أصلا بحث علمي في مصر إلا على الورق ؟ حيث تنفق غالبية ميزانية البحث العلمي على الموظفين والمستشارين والمباني ومراكز الأبحاث و.. و.. ، وهي ميزانية مضحكة بل وتافهة بصراحة لا تليق بقيمة ومكانة مصر ، شوفوا الفضيحة .. هل تعلمون أن حكومة شريف إسماعيل كانت قد أعلنت أنها ستخصص 1 % من الناتج المحلي للبحث العلمي بما يقارب 3 مليارات و 200 ألف جنيه ؟ ! وهذه النسبة الضئيلة من مخصصات البحث العلمي في مصر والتي كانت سابقا لا تقترب من الواحد صحيح في المائة عار بمعنى الكلمة وربما لا تنفقها الحكومة فعليا عند التنفيذ ! لذلك هرب العلماء من مصر واقتنصتهم الدول الأخرى ليزيدوا من قوة بنيتها الفكرية التي يعتبر العلم جزءا منها ، ولذلك لا غرابة مطلقا ولا مفاجأة للعالمين ببواطن الأمور كلام وزير التنمية المحلية الأسبق د. أحمد ذكي بدر عندما سأله شاب من شباب المخترعين والباحثين ليتبنى مشروعه البحثي عندما قال له : اطلع على أمريكا على طول ! ، وهي عبارة لها دلالاتها ورمزيتها المرعبة ، وتؤكد أن الحكومة تقتل البحث العلمي في مصر بشكل متعمد وممنهج وتحارب الإبداع والابتكار والاختراع ..

هل تعلمون أن ميزانية البحث العلمي في إسرائيل فقط ضعف ميزانية انفاق الدول العربية مجتمعة حيث بلغت 4.1 % من إجمالي الناتج القومي وربما يزيد ، فقوة الدول وتحررها واستقلالية قرارها السياسي يكمن أولا في قدرتها على تعظيم البنية التحتية الفكرية بما فيها الفِكر الإداري الذي تنتهجه الحكومات.. يا سادة نحن في ظل الواقع السيئ الذي نعيشه تفشى الجهل الذي هو وحده كفيل بتدمير الشعوب ذاتيا دون اطلاق رصاصة واحدة من الأعداء ، وسادت الخرافة وتمكن الدجل والتدجيل والشعوذة من عقول وإرادة شبابنا وصغارنا وكهولنا ليلقوا مصيرا مرعبا ..

ومن هنا فإنني أطالب الرئيس السيسي شخصيا وهو رئيس وطني ونثق في وطنيته وغيرته على هذا البلد بوضع منظومة سريعة لبنية تحتية فكرية ركائزها العلم والتعليم والإعلام والخطاب الديني المستنير والتدريب وتشجيع البحث العلمي والإختراع ، فبدون البنية التحتية الفكرية كل ما يتم انجازه من مشروعات على الأرض في مجال البنية التحتية سيكون مصيره والعدم سواء ، كما يجب تشجيع الفلسفة وإعمال العقل في امتنا العربية والإسلامية التي يرى بعض رجال الدين فيها أنها زندقة وكُفر بقولهم " من تفلسف فقد تزندق " ؛ في حين أن الفلاسفة هم من كان لهم اليد الطولى في استنهاض الامم وتقدمها ونهضتها العلمية والفكرية والدينية ، فالجهل هو أبو الشرور كما يقول الفيلسوف سقراط ، والفلسفة وفقا للمصطلح اليوناني " فيلسوفيا " هي " حب الحكمة " وتهدف للبحث عن الحقيقة، والحقيقة في عالمنا العربي تاهت تحت ركام الجهل والتخلف والرجعية ومخاصمة العلم والفكر ، إننا منظور فلسفي جهلاء بمعنى الكلمة وندمر أنفسنا وبلداننا ذاتيًا .. ولم ننهض إلا إذا أدركنا هذه الحقيقة الصادمة ..
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط