الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

القصف التركي للكرد.. رسائلها ومآلاتها


كما كان متوقعا, فقد أقدمت تركيا على قصف مواقع كردية خارج الحدود تحت ذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني،بعد موجة التصعيد الكلامي للساسة الأتراك في الفترات التي سبقت الاستفتاء في تركيا,و التي وصفها المراقبون بأنها ستكون بوابة تركيا نحو إعلان حرب مفتوحة خارج الحدود، للهروب من أزماتها الداخلية المزمنة وكذلك لامتصاص الغضب الشعبي المحتمل فيما إذا انتصر خيار (نعم) ضد خيار (لا) في الاستفتاء،بالإضافة إلى تشكيل عامل ضغط على عواصم القرار لإعادة الاعتبار للدور التركي في المنطقة و الدفع بالورقة الكردية إلى أدراج النسيان مرة أخرى،دون أن نتجاهل المحاولات التركية بمد شريان حياة لتنظيم داعش الذي لطالما تقاطعت مصالحه مع تركيا.

لا شك أن هذا القصف التركي حمال أوجه،يختلف تفسيره باختلاف زاوية الرؤية لكل متتبع لهذا التشابك و التعقيد في الخارطة السياسية و العسكرية سواء في سوريا، أو في المنطقة عموما،و مع إضافة الفوبيا الكردية التي يتحسس منها الأتراك بالإمكان استنتاج رسائل غاية في التناقض فيما بين الاحتمال والآخر.

فإذا ما اعتبرنا أن هذا القصف هو رسالة تركية لإحراج الأمريكان أمام الكرد،و محاولة لزرع أسفين فيما بينهم بعد أن تجاهل الأمريكان نداءات تركيا المتكررة للاختيار بينهم و بين الكرد،فإنه بالإمكان اعتبار هذا القصف بذات الدرجة من القراءة على أنها اتفاق ضمني بين تركيا و أمريكا لتوجيه رسالة ضغط إلى الإدارة الذاتية في شمال سوريا لإجبارها على تقديم بعض التنازلات والرضوخ للشروط الأمريكية/التركية، والاصطفاف إلى جانب هذا التحالف ضد ما يسمونه بالحلف الشيعي – الكرد أعلنوا في أكثر من مناسبة بأنهم غير معنيين بالاصطفاف الطائفي وهو ما يزعج تركيا ومحورها - لا سيما أن إدارة ترامب مقدمة على التصعيد المزدوج ضد إيران و كوريا الشمالية و هي بأمس الحاجة إلى تركيا كعمق استراتيجي لسياساتها العسكرية في الفترة القادمة،وهي بقدر حاجتها لتركيا،كذلك غير مستعدة للتخلي عن الورقة الكردية،و بالتالي مضطرة للضغط هنا وهناك بغية إجبار كلا الفريقين على الاصطفاف في معسكر واحد،وعليه فيمكن تفسير هذا التصعيد ناتجا عن ضوء أخضر أمريكي ضمني لإضعاف الكرد عسكريا، واستنزاف الأتراك عسكريا وسياسيا وفتح الأبواب أمام ردود الأفعال المحتملة، ومن ثم إعادة ترتيب الأوراق وفق ردود الأفعال تلك والتي يمكن تلخيصها بتهديد الكرد لإيقاف حملة غضب الفرات التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية لتحرير الرقة من قبضة تنظيم داعش،والتي تدعمها الولايات المتحدة بقوة، 
وجل ما تتمناه تركيا هو ذاك،لتقدم نفسها كبديل ، أو حتى كشريك جاهز،فيما يعتبر احتمال الضوء الأخضر الأميركي الضمني مقدمة للتذرع بتزويد الوحدات الكردية بالأسلحة النوعية و اعتبارها شريكا رسميا للتحالف الدولي احتمالا قائما بذاته،مضافا إليها احتمالية إعلان منطقة حظر جوي شمال سوريا.

حيث صدرت مطالبات رسمية لأكثر من شخصية كردية في هذا الاتجاه لعل أبرزها تغريدة على تويتر للسيدة هدية يوسف الرئيسة اللمشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية،إضافة إلى تصريحات صالح مسلم المطالبة من المجتمع الدولي بحماية المناطق الكردية من الاعتداءات التركية. 

عدا ما تقدم،بالإمكان اعتبار هذا القصف هو تصرف أحادي تركي- لا سيما بعد النفي الأمريكي لعلمهم بأمرها مسبقا – كأولى الرسائل لتركيا الرئاسية، التي ودعت عهد الحياة البرلمانية و أصبح بإمكانها اتخاذ قرارات الحرب في قصور الرئاسة، أو إذا تم التسليم بالرواية التركية التي تتدعي بأنها أخطرت الأمريكان عن هذه الضربات فإنها رسالة تطمين أمريكية للأتراك بأنهم ما زالوا الحليف الأفضل و المُعَوَّل عليه،فيما يعتبر الاحتمال الأخير الذي يصب في جهة أنها عملية مقررة بين روسيا و تركيا و الولايات المتحدة للدفع بالكرد إلى الاصطفاف مع اللنظام أو المعارضة بغية وضع اللمسات الأخيرة للترتيبات النهائية المتعلقة بإنهاء الحرب في سوريا، و إجبار الكرد للتخلي عن تعنتهم في رفض الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع و إصرارهم على اعتبار أنفسهم طرفا قائما بنفسه أيضا بمثابة احتمال آخر قائم رغم أنه احتمال ضعيف.

الأتراك وجهوا الكثير من الرسائل في هذا القصف المزدوج على جانبي الحدود،بغض النظر إن كانت قد أخبرت أحدا بها أو أنها نفذتها بقرار منفرد،فبينما كانت الضربات دقيقة و موجعة لوحدات حماية الشعب في شمال سوريا،فإنها استهدفت حلفاءها البيشمركة في منطقة سنجار العراقية تحت يافطة (الخطا/النيران الصديقة) و هو احتمال مستبعد،ذلك أن الأتراك،وبالرغم من عداءهم العلني ضد منظومة العمال الكردستاني،إلا أنهم يريدون بنفس الوقت توجيه رسالة لحليفهم البرزاني أيضا كعقاب للكرد (العراقيين) حول رفعهم للعلم الكردي في كركوك التي يعتبرها الأتراك جزءا من ولاية الموصل و ما زالوا يطالبون بها،وكذلك توبيخا شديد اللهجة لهم لما يروجون له من مطالب استفتاء حول استقلال أقليم جنوب كردستان عن العراق (للمفارقة فإن ولاية الموصل التي يطالب بها الأتراك تشمل كركوك و دهوك و أربيل وهي المناطق التي يحاول حليفهم البرزاني الاستفتاء على استقلالها عن العراق).

وبما أننا نتحدث عن الرسائل و مآلاتها فإن الرد الأمريكي هذه المرة لم يوافق الهوى التركي،حيث تعود الأتراك على بيان الدعم الأمريكية أو تفهم الولايات المتحدة للهواجس التركية و دعمها في دفاعها عن النفس ضد حزب العمال الكردستاني.

هذه المرة عبر الأمريكان عن القلق،و هو تحول نوعي وهام جدا،كما انه مقلق للأتراك،ذلك ان هذا القلق الأمريكي قد يكون بوابة لدعوات امريكية في مناسبات قادمة بمطالب ضبط النفس من كلا الطرفين ما يعني ضمنا أن الأمريكان قد وضعوا الكرد في كفة ميزان متساوية مع الأتراك و هو ما يعتبر ضربة قاصمة للسياسات التركية،واستفزاز أو ابتزازا غير مسبوق ضد تركيا يتجاهل كل إمكاناتها لما أسلفنا حول دورها المحتمل في التصعيد الأميركي ضد الإيرانيين.

هذه الرسالة الأمريكية لم تتوقف ضمن جغرافية شمال سوريا،التي يحاول ساستها نفي كل علاقة لهم بالعمال الكردستاني تطمينا للأتراك،بل تجاوزت ذلك إلى قلقها إزاء القصف التركي لمواقع حزب العمال الكردستاني.

على اعتبار أن تركيا كانت تقصد مواقعهم لا مواقع البيسشمركة، واقترن القلق الأمريكي الرسمي بتكذيبها للرواية التركية، و الظهور العلني الثاني لمصطفى عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية مع قائد القوات الأمريكية في شمال سوريا،وهي رسالة تهديد واصحة المعالم للأتراك مفادها بأن الأمريكان ماضون في بناء علاقات كاملة مع منظومة العمال الكردستاني ومتجاهلين المخاوف التركية،ذلك أن الأتراك يعتبرون مصطفى عبدي قياديا في حزب العمال الكردستاني الأم و مكلف من قيادة الحزب بملف شمال سوريا،ولا اعتقد بأن أمريكا بكل قوتها الاستخبارية غافلة عن هذه الحقيقة،وهذا الظهور العلني لقواتها العسكرية لمرتين معه تعتبر رسالة إضافية تهدد تركيا في الصميم.

هذه المعطيات تنذر بتغيرات دراماتيكية في القادمات من الأيام،لعل خاسرها الأكبر ستكون تركيا التي أصرت على العزف المنفرد عن العالم في تعاطيها مع القضايا العالقة و محاربة الإرهاب.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط