الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الهجرة الافتراضية


بينما كنت أعيش طفولتى فى الريف، فإذ بى فى أوقات معينة من السنة أجد أسراب كثيرة من طيور مختلفة تمكث فترة تقترب من الشهر فى منطقتنا، ثم تواصل طيرانها إلى مكان أجهله، وكنت أراقبها عن كثب فكانت معظمها تطير نهارًا فقط، وتبيت ليلًا على أعالى الأشجار حال كان حجمها صغير ووزنها بالتبعية خفيف، وأخرى كانت تبيت على الأرض لكبر حجمها وثقل وزنها وبطء طيرانها؛ فكانت تلك الأخرى تمثل هدفًا وصيدًا ثمينًا لى وأقرانى فكنا نخرج ونصطادها ونستمتع بشهى لحمها بعد تأكدنا من قابلتيها للأكل.

هذا، وكانت تلك الوقائع قد سيطرت على كامل وجدانى فكنت أسأل نفسى لماذا تلجأ أغلب الطيور الانتقال من أماكن لأخرى؟ وهذا كان قبل علمى أن تلك الظاهرة تسمى "هجرة" بعدما سألت أحد أساتذتى بالمدرسة الإبتدائية، وأتاح لى كتب مصورة تشرح الهجرة فى أبسط صورها. وأصبحتُ محملًا بتلك الصورة الذهنية الساحرة عن عالم الطيور والكائنات الحية، ولم أكن أعلم أن القدر يخبىء لى أن هذه الظاهرة – الهجرة - ستكون مستقبًلا أحد أفرع تخصصى العلمى الدقيق، والذى للأسف يعتبر أقلها بحثًا من قِبل العائلة الديموجرافية؛ نظرًا لعدم توافر بيانات كافية عن الهجرة من خلال المسوح المتخصصة كنظيراتها المواليد والوفيات.

وبعد الدرس والإطلاع تعلمت أن الهجرة غريزة طبيعية فى أغلب الكائنات الحية، ويمكننى تعريف الهجرة وذكر أسبابها على النحو الآتى: فالهجرة ببساطة تعنى تحرك الكائنات الحية من منطقة جغرافية إلى أخري تبعًا لإختلاف المواسم المناخية، وهذا التحرك الغريزى ناجم عن إنخفاض مصادر الغذاء فى أماكنها الأصلية بسبب تغيُر المناخ فى المواسم المختلفة، وأيضًا لهدف هام آخر هو الحفاظ على النوع من الإنقراض عبر وظيفة التكاثر التى تُعتبر المناطق الدافئة أكثر ملائمة لاتمامها بنجاح.

تعتبر الهجرة حسب علم السكان ( الديموجرافيا) أحد أضلاع المثلث الذى تُعبر مجتمِعَه عن تغيُر هيكل السكان بعد المواليد والوفيات، فتزيد السكان بالمواليد وتنقص بالوفيات، وتزيد وتنقص فى آن واحد بالهجرة؛ تزيد فى حالة الهجرة الداخلية من الريف للحضر فى بعض المحافظات وتنقص فى أخرى، وتنقص فى حالة الهجرة الخارجية، وفى حالات قليلة تكون هجرة وافدة إلى داخل البلد تزيد من عدد السكان المقيمين فى بلد ما (العمالة الوافدة). وتنقسم الهجرة إلى تصنيفات مختلفة حسب مجال البحث، فهى هجرة شرعية تهدف لإنتقال وسريان العمالة والوظائف المختلفة بين البلدان بما يُشكِل تيارات هجرة خارجية، وقد تكون داخل البلد الواحد كهجرة داخلية بين التقسيمات الإدارية كما أسلفنا، ونظرًا للتطور التكنولوجى الهائل فى سُبل الإتصالات والمواصلات والسفر السريع والذى أفرز أنماطًا مختلفة من السلوك الإنسانى والسيولة فى الحركة أو القيود عليها بين الدول؛ مما أعاد تصميم حسابات وقوانين وقواعد الهجرة وأصبحت أكثر تعقيدًا الذى بدوره أنتج سلوكًا آخر يسمى الهجرة غير الشرعية وهى ببساطة أى نمط متعلق بالإنتقال من بلد لآخر عبر كسر تلك القيود والقوانين المُحددِة لكيفية وآلية الحركة فى إطار كلى يشترك فيه أغلب بلدان العالم، وآخر جزئى قد تفرضه الدول صاحبة النظرة الإنتقائية فى الهجرة حسب تخطيطها وؤيتها السكانية الداخلية ومستوى مواردها وقدرتها على الإستيعاب السكانى، وهذا رأيناه جليًا فى رفض دول بالإتحاد الأوروبى دخول اللاجئين السوريين لأراضيها، وقبلت بعد ذلك بتقسيم اللاجئين وفق نسب عادلة – من وجهة نظرهم - على البلدان الأوروبية، أما فيما يتعلق بالإنتقائية أى الإختيار الدقيق والمتأنى للمهاجر وفق مراحل متتالية من الإختبارات والتأهيل ولنا فى أمريكا وكندا مثل، فتلك الدول لا تأخذ شخصًا يمثل عبئًا عليها ويخصم من مستوى الرفاهية ( المادية) لمواطنيها.

وبهذا فإن المقاييس التى تقوم عليها الإنتقائية هى مقاييس وظيفية متعلقة بالكفاءة وليست مقاييس إنسانية أو تراحمية، حيث من الممكن فى هذه المنظومة رفض طلبات لجوء للمسنين والمرضى وكذلك الأم الحامل أو التى لديها أطفال صغار، وهذا لأنهم حسب الرؤية العلِمانية لتلك الدول ضعفاء منخفضى أو منعدمى الكفاءة، وتكلفة إعالتهم مرتفعة اقتصاديًا، فالرحمة والإنسانية ومفهوم الأسرة تلك مفردات غير موجودة بالقاموس العِلمانى، فهو لا يكترث إلا بالأقوى والأسرع والأكفأ والأكثر استقلالية وبالتبعية الأكثر إنتاجية وتلك المفردات تطغى على شتى مناحى الحياه فى المأكل والمشرب والملبس والمسكن، والعمل...الخ.

وبيئة الهجرة المعقدة آنفة التفصيل خرجت بنموذج معرفى جديد حول الهجرة أستطيع تسميته (الهجرة الإفتراضية)، وهى ببساطة نوع من الإنتماء الفكرى من قِبل تيارات من الأشخاص أغلبهم شرائح شبابية إلى جغرافيات مختلفة من العالم خاصة دول العالم الأول الذى تمثل الحُلم الجمعى لهم، و خلَق هذا الإنتماء المجتمعات الافتراضية عبر وسائل الاتصالات المختلفة، فتوجب أن يكون مصاحبًا لتلك المجتمعات الإفتراضية ( هجرة إفتراضية) بين المواقع الالكترونية ومن جزيرة رقمية لأخرى ينتمى لها الإنسان بفعله وتأثيره وتأثُره لا بجسده عبر العالم الافتراضى واسع الضِيِق، والخطورة فى مفهوم الهجرة بعد تحوُره كفيروس عالى التكيُف إلى هجرة إفتراضية أن كافة القيود والقوانين المنِظِمة للهجرة التقليدية لا تسرى علي مفهومها الجديد؛ فتؤدى إلى خصَم مُستدام من فاعلية وتأثير الشعوب وتفاعلها وتعارفها فيما بينها، وهنا يوجد تناقض فأغلب تلك الدول التى تُمثل حُلم المهاجر – تُعلى من شأن الجسد كمادة - لاتكترث للقيم الإنسانيه كما أسلفنا، فهى تعتبر الإنسان وتصنفه من الأشياء لديه قابلية لأن يُبَاع ويُشتَرَى مثال على ذلك؛ إنتقالات لاعبى الكرة بين الأندية المختلفة بدعوى الاحترافية، فتلك المجتمعات الافتراضية هى ذروة ما وصلت إليه المنظومة العِلمانية وهى فى طريقها للزوال؛ لأنها تحمل فى تكوينها عوامل هدمها، فهى لا إنسانية لا تعترف بالجمال والطمأنينة والعدل والحب، فتلك مفردات يعجز العلم عن إدراكها بالقياس الكمى كما وضحها المفكر د. عبدالوهاب المسيرى على صفحات من نور فى موسوعته الأشهر "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية".

وأخيرًا... من يقرأ للمفكر الفذ الدكتور/ عبدالوهاب المسيرى تتعطل لديه خاصية الانبهار بالغرب، خاصة بعد ما أصبحت جزءًا أصيلًا - built in – فى جيناتنا الكامنة فى DNA العربى على وجه العموم والمصرى خاصة.

الخلاصة...حتى لا تتبدد جهودنا فى التنمية واستدامتها، لابد أن نُجرى مسوح متخصصة للهجرة حتى يتوازن التخطيط السكانى فى مصر؛ ليصبح مثلث مكتمل ومتساوى الأضلاع (مواليد، وفيات، هجرة).
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-