الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ما هي الذاكرة.. وكيف «تخون» صاحبها؟


بعد أبحاث امتدت لعقود، أجمع العلماء على أن مخ الإنسان هو أعظم جهاز على وجه الأرض! فيه مليارات الخلايا التي تتصل ببعضها أكثر من اتصالات هواتف العالم أجمع، وقدروا حجم ذاكرة المخ البشري بـ 2.6 مليون جيجابايت، أي بطاقة تستوعب كل ما يبثه تليفزيون مفتوح يوميا لمدة 300 سنة، ولن يستطيع شخص أن يملأها مهما طال عمره..

العجيب في مخ الإنسان تعقيده وبساطته في نفس الوقت! المخ وزنه 1.4 كيلوجرام، هلامي دهني الملمس، يعمل بالكهرباء، ومع قدراته الجبارة، لو تم طحنه في خلاط وفصل مكوناته نجدها من أبسط ما يكون: 80% ماء – 12% دهون – 8% بروتين مع بعض آثار من الكالسيوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم والحديد والنحاس، التي كانت تلعب دورا مهما في توليد الكهرباء وتوصيلها لمختلف المناطق!

والذاكرة هي بنك المعلومات لكل مخ، يرجع إليها صاحبها في كل أمر، تجمع معلوماتها من الحواس الخمس، وقال علماء إنها تبدأ في العمل والجنين في بطن أمه وتستمر في جمع المعلومات إلى آخر العمر، وهي تمثل شخصية الإنسان، وإن كانت لدى الحيوانات ذاكرة أيضا لكنها ضعيفة جدا مقارنة بذاكرة الإنسان.

الذاكرة نوعان: ذاكرة قريبة وهي ما نخرج به للتو من مشاهدات ومناقشات مع أشخاص، وتشغل مساحة كبيرة في الفص الجبهي الأمامي للمخ (الناصية)، لذا نرى جبهة الإنسان عريضة وعمودية بعكس جبهات الحيوانات كالقرود والكلاب والفئران، ضيقة ومائلة إلى الخلف لصغر حجم مناطق ذاكرتها، ولكي تتحول الذاكرة القريبة إلى ذاكرة طويلة الأمد، ترسل المعلومات إلى مكان آخر في المخ ضمن الفص الصدغي يسمى قرن آمون (Hippocampus) ليقوم بربطها بالماضي وبالمناطق المحيطة بمراكز الحواس، ومناطق أخرى في العمق، لتختزن فيما يشبه الأرشيف الضخم.

وإن تم تحديد أماكن الذاكرة، لكن لم يعرف حتى الآن كيف تخزن المعلومات في مادة شبة سائلة كالمخ، وشاء الرحمن أن تكون هذه المناطق مؤمنة ومحمية، فعندما يتوقف عمل المخ في غيبوبة أو تحت التخدير الجراحي العام، نجد أن الذاكرة تعود كاملة بعد الخروج من الغيبوبة والجراحة، وقد تعلم صناع الأقراص الصلبة للكمبيوتر من هذه الخاصية، وابتكروا طريقة تسمح باستخراج الذاكرة من قرص تالف.

لكن كيف تخدعنا الذاكرة أو نخدعها؟ الأمثلة على ذلك كثيرة، فعند تكرار معلومة كاذبة عليها فإنها تصدقها مع الوقت (وهذا ما يسمى غسل المخ)، ومن خداع الذاكرة لصاحبها أن يبحث عن نظارته في كل أركان البيت وهو يرتديها، أي أن ذاكرته صورت له أماكن كثيرة لوجود النظارة إلا وجهه، وقد يحرك شخص علبة السجائر بدلا من فأرة الكمبيوتر ويستغرب لماذا لا تعمل الفأرة، ويقوم ليتأكد من الوصلات خلف الكمبيوتر، لأن ذاكرته أوحت له بأن ما تحت يده هو فأرة وليس علبة سجائر!

والذاكرة متهمة بالانحياز أيضا، فهي تميل إلى تسجيل ما تحب وتجاهل ما لا تحب، فكم من كوارث تحدث نتيجة "الفهم الغلط" وهي السبب فيه، وعبارة "الزمن الجميل" التي يرددها البعض حقيقتها أن الذاكرة احتفظت بالجميل منه فقط وأهملت كل عيوبه ومساوئه، وعندما يدخل شخص إلى مكتب ويفاجأ بسكرتيرة جميلة فإن ذاكرته تنصب عليها ولا تهتم بما حولها كالجدران والمكتب والكرسي الذي تجلس عليه!

تتفق أبحاث الذاكرة مع الحكمة القائلة: "العقل السليم في الجسم السليم"، أي للحصول على ذاكرة سليمة وقوية ينصح بالأكل الصحي المتوازن وممارسة الرياضة والنوم الكافي المنظم، مع المداومة على تنشيط العقل بكثرة حل الألغاز والحرص على تعلم الجديد باستمرار، وكأي جزء من جسم الإنسان، قد تختل الذاكرة أو تتدهور في أي وقت لأسباب عدة، لكن قبل التطرق إليها يجب طمئنة القارئ بأن النسيان في حدود معقولة نعمة ولا خوف منه إلا إذا زاد عن حده، وقال بعض الباحثين إن الذاكرة لا تمحى، لكن الصعوبة في كيفية استخراجها من مخابئها "لتسعف" صاحبها.

من العوامل التي تضر بالذاكرة قلة النوم والتوتر والقلق، ونقص فيتامين B1 وB12، وأنواع كثيرة من الأدوية الشائعة كمضادات الهستامين والاكتئاب والمهدئات، وكذلك الكحول والتدخين لفترة طويلة، فقد أشارت أبحاث إلى أن أول ما يظهر على ذاكرة المدخن حالة يتذكر فيها الصور وينسى أسماء أصحابها، والمصاب بجلطة في المخ يظهر عليه خلل مختلف، حيث يتذكر طفولته جيدا لكنه لا يتذكر ما حدث له في الأيام الأخيرة، وفي مرض الزهايمر تموت خلايا المخ تدريجيا ومعها يفقد الإنسان الإحساس بالزمان والمكان وينسى صور الأشخاص وأسماءهم، إلى أن يصل إلى مرحلة الانهيار التام وفقدان التحكم حتى في بوله وبرازه.. وبشكل عام، نصف البشر يفقد ذاكرته عند سن 85، والـنصف الآخر محظوظ تبقى ذاكرته قوية إلى آخر العمر.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط