الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب: دائماً أنت بعيدة

رضا نايل
رضا نايل

ترسم عيناي خرائط لكل الأوقات التي يكون فيها ظلي وظلكِ متوازيين، ولكنها خرائط فارغة من الوقت، من خطوط الطول والعرض، فقد كنت دائمًا عالقًا في سمائكِ مثل هاروت وماروت، وأنتِ هناك على الأرض سرابٌ يكبر ويمتد منذ خرجتُ من الرحم، فقد أخبرتني أمي أنكِ أول من حملتني بين ذراعيها وضمتني إلى صدرها، فأنا وليدكِ تعلمت منك الخطو والكلمات.. وكلما كبرت أقامت السنون بيننا سدًا كالذي أقامه ذو القرنين، وزاد ما بيننا عمقًا بفعل انحدار مفاجئ في علاقتنا، فأنا لم أعد هذا الصغير البريئة نظراته، فبمجرد أن تنعكس صورتكِ في عيني تُسبب نظراتي لكِ الضيق والجرح، فيصبغ الارتباك وجهكِ بلون الأقحوان ويسود صمت أشعر بثقله وطعمه المر في شفتيكِ، وبغضب يشبه غضب موسى من هارون تُعرضين عني، فأبكي كطفل ضربته أمه، ثم تلتفتين نحوي صارخة أن أتوقف عن طرق بابك.. ولا أدري أباب منزلك أم قلبك؟!

فأبكي كطفل عادت أمه لضربه حتى يكف عن البكاء، ثم بكيت هي من قسوتها عليه، وتسري داخلي رعشة عنيفة فأرتجف بقوة كشجرة تضربها رياح عاتية، فتضمني إليكِ كيوم مولدي الذي كان قبل خمسة وعشرين عامًا، والذي تصادف أن يكون يوم ميلاد طفل صديقتكِ الوحيد هو يوم مولودكِ أيضًا، ولكن قبل عشرين عامًا من خروجي من الرحم لأكون بين ذراعيكِ كما أنا الآن في عيد ميلادنا، دون أن يتغير إحساسكِ بي، فقد كنت دائمًا ذلك الصغير الذي لا يمكنكِ أبدًا الاحتفال بعواطفه كرجل، لذا أدركت أن لمسي لكِ مستحيل حتى وأنا بين ذراعيكِ، وأن مشاعري كلها عبثٌ لا رجاء فيه، وأن كل شيء مع مرور العمر يصير أكثر قابلية للطي والكتمان وأكثر إيلامًا من كل الحقائق المخيفة التي نفرض عليها داخلنا حظرًا للتجوال بينما هي متقدة كالجمر، ومع ذلك كانت بيننا علاقة من الصعب عليكم فهمها، فقد كنا توأما سياميا لم يفصلنا إلا الموت الذي أتى بي إليكِ صباح اليوم، فأنت تحبين مثل هذه الصباحات حيث يهطل مطر خفيف كخيوط رفيعة معلقة في الهواء لا تكاد تدركها العين إلا إذا حدقت في الأفق الممتد الذي تكسوه السحب فيبدو غائما حزينا مثلي لأنه فقد ليوم الشمس، بينما أنا فقدتكِ ما بقي من العمر، بينما أنا كنت مقتنعا منذ بدأ قلبي يخفق خفقانا شديدا عند رؤيتكِ حتى ظننت الكون يسمع دقاته أنكِ ستظلين دائما بعيدة.