الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إصلاح الخطاب التاريخي


المعضلة الرئيسة التي نواجهها في تعاملنا مع ذاتنا والآخر تنبع في تجاهلنا للحقيقة التاريخية التي كانت يومًا ما أساس تطور كافة الثقافات المجتمعة مع بعضها البعض على هذه الجغرافيا. والانقطاع عن التاريخ بكل تأكيد سيولد معه المجتمعات النسخة التي لا تعي حاضرها وتسير في المجهول نحو مستقبلها، بالرغم من كافة ما تقوم به من طفرات صناعية وعمرانية.

الأساس في بناء المجتمعات البشرية المتقدمة يبدأ من النظر إلى الحالة الذهنية لها والعمل على تنقيتها من الشوائب وحقنها بالمقويات المعرفية والإدراكية لبناء مجتمع سياسي وأخلاقي الذي يُعتبر جوهر بناء الإنسان الحر.

تطور البشرية يعتمد أساسًا على تطور الحالة الفكرية لديه وكل ذلك بدأ بأم العلوم الانسانية والتي هي الفلسفة والمرتبطة بشكل وثيق بسوسيولوجيا المجتمعي. 

ولا يمكن انكار دور الفكر والبحث عن الحقيقة النسبية التي أمَّنت الطمأنينة للانسان ليفكر بمستقبله. وحينما ينقطع الإنسان عن هذه الثوابت نراه يتخبط يمنة ويسرة لا يستطيع تثبيت أقدامه خلال المسيرة التاريخية.

المشكلة الكبيرة هي أننا نبدأ تاريخنا من بعض الأرقام التي حفظناها وننسى بعضها أو ما قبلها، وكأن التاريخ بدأ من هذه اللحظة وكل شيء ما قبلها لا يعنينا مطلقًا أو نثرثر فيه وكأنه فانتازيا نخبوية لا فائدة منها. اللحظة التي نعيشها هي نفسها بعد ثوانٍ معدودة ستكون التاريخ بحد ذاته والتي من خلالها سيتم رسم المستقبل الذي أمامنا في هذه اللحظة ولكن بعد برهة سيتحول هذا المستقبل أيضًا إلى تاريخ.

 من هنا نرى أن عملية الفصل فيما بين اللحظة والتاريخ والحاضر والمستقبل لا يمكن أن تتم إلا بشكل نسبي، وهي علاقة مترابطة مع بعضها البعض ولا يمكن تجزئتها وتقسيمها، كذلك الكوني والجزئي أيضًا لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. لأن الكوني والعام يتألف من الجزئي بحد ذاته ولا يمكن تواجد الكوني من غير الجزئي والعكس صحيح أيضًا.

حينما يتم تحليل الحالة التي نعيشها نُدرك جيدًا أن السبب الرئيس لما نعانيه من تشتت وتخبط هو عدم استيعابنا للتاريخ بشكل جيد وإن كنا نحفظه عن ظهر قلب. تلقين التاريخ لا يكفي للنهوض بالمجتمع نحو المستقبل، بل علينا أن نعيش التاريخ بروحه ونبني المستقبل وفق التطورات الحديثة لنبعث من جديد.

تاريخ منطقتنا يمتد لآلاف السنين من الحضارة والمدنيات التي كانت معمرة يومًا ما، إلا أننا نبدأ التاريخ من بداية تشكل الدول وبالتحديد من القرن العشرين ونعتبره أساسًا في علومنا ومنهج تفكيرنا ونتناسى ما قبله وكأنه صفحات من كتاب التاريخ نتذكره حدث في مثل هذا اليوم من الماضي.

بداية القرن العشرين وحتى الآن لم يكن سوى انحدار أكثر نحو الهاوية التي نعيشها الآن. وما نراه ورأيناه لم يكن سوى قرنًا كاملًا من الصراعات والحروب والنكسات والنكبات والتقسيم والتهجير والدمار والخراب والانقلابات، مع بعض الفترات الزمنية القصيرة التي كانت فترة استراحة لم يحدث فيها سوى بعض التطورات الشكلية التي لا تغني عن الواقع الأليم الذي ما زلنا نستمر فيه.

 مع العلم أن آلاف السنين قبل القرن العشرين كانت المجتمعات والشعوب وكل الثقافات تعيش مع بعضها البعض من دون أن يفني أحدهما الآخر. هذا التاريخ الذي علينا الارتباط به وليكن الأساس في بناء المستقبل.

الأنانية الفجَّة هي المتحكمة في انفعالاتنا وأهوائنا أكثر من الروح الجماعية التي هي اساس التطور المجتمعي عبر التاريخ. وكل شخص لا يفكر إلا بنفسه ويسعى لأن يوصلها لأفضل معيشة ولو كانت على حساب أقرب المقربين إليه، كذلك العائلات والجماعات حتى نصل إلى الدول.

الكل يفكر بنفسه ولا يهتم بما يجري من حوله وكأن الأمر لا يعنيه بتاتًا. وأن الحدود السياسية للدول التي جعلت منها ملكيات خاصة للنظم المسيطرة عليها، باتت من المقدسات التي لا يمكن لأي كائن أن يتقرب منها فكريًا كي ينتقدها، إنها من المحظورات والتي ستؤدي بكل من يفكر عبور هذه الحدود فكريا على أنه من الروافض أو زنديقًا أو خائنًا وعميلًا، وإقامة الحد هو الفاصل لإنهاء أية حالة فكرية يمكن أن تكون عنوانًا والتي من خلالها يتم بناء المجتمعي النمطي المخصي فكريًا وذهنيًا.

الهويات القاتلة هي نفسها الحدود القاتلة التي تم رسمها لنا خلال الحروب المقدسة في بدايات القرن العشرين ولا زلنا مؤمنين بها وكأنها منزلة من السماء. وحتى أصبحت هذه الحدود والهويات وبالًا على الشعوب والمجتمعات بدلًا من أن تكون عوامل قوة وتطور.

التحرر من التاريخ النمطي هو الأساس في تغيير منظومة تفكيرنا وكذلك الاعتراف بأنه لا يمكن أن أكون موجودًا إلا بوجود الآخر. وهذا يلزمه تغيير الخطاب الفكري من الأساس والذي يبدأ من تنقيته من كافة الشوائب والطفيليات العالقة به والنهوض بالفكر نحو الفضاء الأوسع، الذي يخفي بين جنباته الحقيقة والحرية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط