الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الكهنة القومويون


عبرت أوروبا مرحلة العصور الوسطى التي كانت أحلك مراحلها من ظلم وعبودية وحرق وسجون، حينما تخلصت من سطوة كهنة المعابد الذين كانوا يتمسكون بأسباب الحياة وبكل صغيرة وكبيرة. هؤلاء الكهنة الذين كانوا يتحصنون بالكتاب المقدس في كل شيءٍ يقومون به وكان بـ "اسم الرب"، وبما أنه باسم الرب وقتها لا يمكن لأي شخص كان أن يفكر حتى بنقاشهم حول صوابية هذا القانون من عدمه، أو هل الرب بالفعل يريد هذا الأمر أم لا؟.

قرون عدة عاشت أوروبا عصور من الظلمات والقتل والحرق والصلب والنحر وكل ذلك كان باسم الرب الأعلى الذي لا تعلو أية كلمة عليه. وكأن الناس من البسطاء مقتنعون بذلك وينفذون من يطلبه "الرب" منهم خشية من الغضب الإلهي في الدنيا والآخرة. 

العقيدة الدينية التي كانت مسلطة على الشعوب بمصطلحات مقدسة ولا يمكن المساس بها، جعلت من المجتمع يعيش كالقطيع يتم توجيهه من الراعِ الذي يُعتبر "ظل الله على الأرض".

بهذه المكانة المرموقة استطاع الكهنة من السيطرة على عقول وقلوب البشر والمجتمعات وتوجيههم لحروب مقدسة من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله الذي سيمدهم بالنصر المؤزر.

استمرت أوروبا بهذه الحالة حتى جاءت مرحلة التنوير والإصلاح والنهضة التي كان لها فلاسفتها الذين عملوا ليل نهار من أجل تخليص الشعب من الحالة المزرية التي كانوا يعيشونها تحت اسم "الرب، المقدس، الجنة، النار".

بدأت هذه المرحلة بتغيير جوهري في الثقافة الفكرية التي كانت سائدة لقرون عدة، وكان الوعي والفكر والعلم أساس هذه النقلة النوعية من مرحلة إلى مرحلة أخرى. وكلنا قرأ آلاف الكتب وكذلك مئات الفلاسفة وعشرات المثقفين الذين ضحوا بحياتهم من أجل العبور نحو حياة أفضل.

وها نحن على أعتاب القرن الحادي والعشرون نعيش نفس التراجيديا والمأساة التي كانت تعيشها أوروبا في العصور الوسطى ومرحلة الصراع بين القديم والجديد. القديم الذي يسعى بكل ما لديه من أجل التمسك بسلطانه وسلطاته وجبروته، وجديد يبحث عن حياة أفضل وكرامة ما زال لم يتذوق طعمها بعد.

الفارق بين ما حصل في أوروبا وما يحصل في منطقتنا الآن وبالرغم من أوجه التشابه العديدة، إلا أننا ما زلنا نفتقر إلى المثقفين والفلاسفة كي يأخذوا دورهم في عملية التحول هذه. لأن التحول ينبغي أن يكون فكريًا وثقافيًا قبل أن يكون في الشكليات وتغيير الحكام فقط. لأنه بتغيير الكهنة لن يتغير الوضع. فالذي سيأتي سيكمل مسيرة الذي قبله وإن كان باسلوب آخر إلا أنه نفس المنطق والتفكير الدوغمائي المتعصب والملتزم لأبعد الحدود في المصطلحات والتعابير التي حفظها عن ظهر قلب من أجل استمرارية سلطة الرب من خلال الكهنة.

كذلك لا فرق بين كهنة العصور الوسطى الأوروبيين والكهنة القومويون في القرن الحادي والعشرون. التزمت في المصطلحات المقدسة إن كانت دينية أو قوموية هي هيلأنها توصل لنفس النتيجة، ولكن كِلا الطرفين يحكم بالحق ويحارب الباطل وكذلك كل هدفه هو إعلاء كلمة "الرب" أو "الدولة"، لأنهما من المقدسات ولا يمكن العيش من دونهما. إذ، لا فرق بين عقيدَتَي التعصب الديني والقومي. كلاهما يعمل على إنكار الآخر مهما كان ولا يتعدى القبول الإطار النظري فقط، لكن عمليًا وكما نرى ما يحصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا الكل يقتل الكل، إن كان دينيًا أو قوميًا. لأ أحد يقبل الآخر لأننا تشبعنا بمصطلحات مقدسة تنفي الآخر وينبغي قتله لأنه كافر أو خائن.

لا يمكن إنكار القومية لأنها واقع موجود متعلقة باللغة والتاريخ المشترك وهي الهوية التي يفتخر بها كل إنسان، لكن التعصب القوموي هو المرض أو الداء الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه، نفس التعصب الدينوي.

الدين هو حاجة الإنسان في الحياة ولا يمكن الاستغناء عنه بشكل مطلق وكذلك القومية. لكن التعصب في كِلاهما يودي بصاحبه نحو التهلكة وإنكار الآخر تمامًا كما نعيشه الآن من حروب مذهبية ودينية وعرقية وأثنية. وطبعًا الغرب الامبريالي حاضر في كل هذه الألعاب والمأساة. فيحرك هذه الأوتار وفق أطماعه ومصالحه ويستغل غباءنا وسذاجتنا من أجل الوصول لأهدافه. والعلة لا تكمن هنا، لأن العدو عدو له آليات وأهداف وسبل كي يصل لأهدافه. نتحدث هنا عن الأسباب الذاتية والأرضية الخصبة التي تنمو عليها هذه الفطريات الغريبة الامبريالية.

الأسباب الذاتية موجودة فينا وعلينا البحث فيها ومداواتها قبل أن تصيبنا الغرغرينا ونضطر لبتر أحد أعضاءنا. المشكلة التي نعانيها في نمطية العقلية التي نفكر فيها والتي لم تتجاوز حتى الآن أرنبة أنوفنا. والتخلص من الكهنة القومويون والمتعصبون أمر مهم جدًا للوصول لمرحلة تذوق طعم الكرامة والحرية. أم أنه ينبغي علينا دفع تكاليف هذه الحرب المدمرة مئات الآلاف من الضحايا حتى نعقل، وبنفس الوقت لا نستفيد من الدروس والعبر التاريخية التي عاشها الآخرين من قبلنا.

لأن أقدس شيء على الإطلاق هو الإنسان والذي سخر الله كل شيء من أجله وليس العكس. كل المصطلحات التي نلوكها نحن من أحطناها بهالة من القدسية وهي من صنع الإنسان.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-