الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الوظيفة: كاتبة


بدأت علاقتي بالكتابة منذ كنت صغيرة جدًا. أذكُر أنها كانت ملاذي الوحيد للبوح بما يضيق به صدري، رغم أن لغتي لم تكن ناضجة. ذات ليلة، عدتُ من الدّرسِ لأجد أمي وأبي وهما منهمكان في قراءة شيء ما، كان منظرهما يوحي بأن الأمر في غاية الأهميّة فشعرتُ بالفضول. تُرى ماذا يقرأون؟ ولما تحققت من الأمر اكتشفت أنهما يقرآن مذكّراتي الشخصية التي كتبتها في لحظة غضب. لقد قابلا الأمر بضحك ومزاح، لما كان في المذكّرات من شكاوى شديدة التفاهة آنذاك.

الشاهد في الأمر، أنني كنت كلما غضبت أو ثرت أو شعرت بالضيق والحزن، كتبت.. رغم ذلك، وللمفارقة، لم أفطن أبدًا أنني أحب الكتابة وأريد أن أصبح كاتبة بحقّ. لم أفطن لهذه الحقيقة سوى بعد تخرّجي من الجامعة ببضع سنوات!

الكتابة بالنسبة لي كانت ملاذًا للبوح بما لا يمكنني أن أخبر به أحدا. والآن، صارت الكتابة ملاذي للنجاة بنفسي من مستنقع الحياة الملوّث. أجدهم يسألون الكاتب دائمًا سؤالًا أساسيًّا في أيّ ملتقى: لماذا تكتب؟ ولمّا فكّرت في إجابة هذا السؤال وجدت أكثر من إجابة تصلح لتكون إجابة نموذجية. فمثلًا يمكنني أن أقول "لأنني لا أعرف أن أفعل شيئًا سوى الكتابة" أو "لكي أفرغ ما في قلبي من مشاعر متزاحمة ومتضاربة وأفرغ ما في عقلي من أفكار متشابكة" أو "لكي أواصل العَيش" أو "لأنني لو لم أكتب سأموت إكلينيكيًّا" وكل هذه الإجابات صحيحة.

الكتابة هي شخصيتي الحقيقية، هي أنا. حينما كان يسألني أحدهم ما وظيفتك؟ كنت أقول "لا أعمل" وكنت أنطقها كببغاء لا يفهم ماذا يقول ولكنّه قد سمعه ويقلّده. أنا أيضًا سمعت أهلي وأقاربي يعرفونني بزوجة فلان أو ابنة فلان أو أخت فلان، ويعرفون بعضهم البعض بأساميهم ووظائفهم. آمنت أنه ليست لي وظيفة، هكذا أسمعهم يقولون. ولكنني في إحدى المرّات، كنت أملأ استمارة لدى طبيب أسنان، فيها كل بياناتي، وبعد أن كتبت بجوار الوظيفة شرطة (__) تدل على عدم وجود وظيفة، طرأ على بالي أن أكتب بدلًا من هذه الشرطة (كاتبة) وبالفعل كتبتها.

أحببتُ وقتئذ سؤال الطبيب حينما استعجب وقال "أأنتِ حقًا كاتبة؟" وأحببت بعدها بأشهر عدّة حينما عرّفتني الممرضة على طبيبة جديدة وقالت لها "على فكرة هي كاتبة" وكأن هذه المعلومة تستحقّ الاندهاش! وقتها طلّت الطبيبة تحكي لي عن علاقتها مع القراءة ومعاناتها في عدم تخيّل النصّ المكتوب. أحببتُ كوني أنتمي للكتابة وكونها تنتمي لي، وأن أُعرّف بكون وظيفتي هي الكتابة. رغم أن وظيفتي هذه لا تُكسبني مرتّبًا شهريّا أو حتى سنويًّا، على الأقل في هذه المرحلة من عمري، إلا أنني اعتبرتها حقًا وظيفة، ورضيت بذلك رضى المؤمن الذي يعرف أن الثواب سيكون في الآخرة!

من ردود أفعال الناس حينما يقابلون كاتبًا، اكتشفت أن الكتابة شيء مقدّس وغير عادي! لم أكن أعرف ذلك حينما كنت صغيرة أكتب شكواي على الورق، بل كنت أعتقد أن جميع البشر يكتبون، ويكتبون بسهولة.. لم أعِ أن الكتابة شيء غير عادي إلا عندما بدأت أعرّف نفسي بكوني كاتبة بدلًا من عاطلة عن العمل فيقولون "أحقًا أنتِ كاتبة؟" ثم يبذلون لي من الاحترام الضعف!

نهاية القول، الكتابة هي ملاذ أحتمي فيه من تجنّي المشاعر الزائدة عليّ، واستيلاء الأفكار الكبيرة المتشابكة والمعقّدة على سلامة عقلي. أكتب كي أتنفّس، وأعيش، وأشعر بوجودي حينما أصير كالعدم.. الكتابة تجعلني أنسى حينما تتضخّم الذكريات الأليمة في رأسي، وتجعلني أغفر وأسامح، لا الناس فقط، بل وأسامح نفسي أيضًا، وهذا أصعب. ولا أعتقد أن هناك أجمل من أن يقرأك أحدًا، فيفهمك، فيشعر بمعاناتك! وقتها تظنّ أن المعاناة التي تولّد كتبًا، هي منحة جليلة من الله تزيدك تألّقًا، وتضمّد جراحك، والعلاج الوحيد لكل ذلك، أن يخبرك أحدهم أن حروفك مسّت قلبه وروحه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط