الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تركيا ومجازر الأرمن وعفرين وغزة


نعيش حالة الفوضى بكل معانيها وتداعياتها التي ستؤثر على العالم بمجمله من ناحية الانحسار نحو المجهول وتدمير البيئة والقتل والدمار أو نحو بناء وتشكل حالة من الاستقرار والرجوع إلى الطبيعة وبنائها من جديد.

هذه المرحلة الانتقالية ستكون صعبة على الجميع والكل سيدفع الثمن بغض النظر عن التموضع الجغرافي وعلى الكل أن يكون مستعدًا لها، خاصة أن أنين الطبيعة بات يدك مسامعنا ويحثنا على التغيير والعودة إلى الأخلاق التي هي أساس التطور الثقافي للمجتمعات والابتعاد عن ظاهرة التوحش الرأسمالي الاستهلاكي التي صعدت على حساب القيم المجتمعية والثقافية للشعوب.

استبشرت الشعوب خيرًا في بدايات القرن العشرين وراحت تزيل غبار الجهل والظلم العثماني الذي امتد قرونًا أربعة، وثارت على عقلية السلطنة العثمانية والمدعية للخلافة الإسلامية شكلًا ولكنها مضمونًا كانت السبب الرئيس في تراجع وسقوط المنطقة في التخلف والجهل.

انتفضت الشعوب في المنطقة باحثةً عن حياة أفضل يكون فيها الانسان هو الهدف، وكانت الحرب العالمية الأولى والاتفاقيات السيئة الصيت بين القوى العظمى التي تبحث عن اشباع جشعها ونهمها على حساب الشعوب والمجتمعات، وضربت هذه القوى (روسيا وبريطانيا وفرنسا) تطلعات الشعوب نحو الحرية وقدمت لهم وليمة تقسيم المنطقة على طبق من ذهب بحجة الاستقلال والوطنية والدولة التي ستكون الطريق نحو الفردوس.

كان الأرمن والسريان والآشور بشكل خاص هم الضحية الأولى لهذا التقسيم وبدأت بحقهم المجازر على يد الجيش الانكشاري العثماني وبمعية الإنجليز والألمان وكانت النتيجة أكثر من مليون ونصف المليون ضحية تم تقديمهم على مذبح الدولة القوموية، هذا من جهة ومن جهة أخرى انطلت نفس اللعبة على العرب وتقسيم جغرافيتهم إلى شبه دويلات يفرحون بها وفيها، والتي لم تكن سوى سجن كبير يتم فيه إعادة تأهيل المجتمعات وجعلها مجتمعات نمطية مستهلكة غير مدركة لنفسها ولما يدور من حولها.

الكرد الذين كانوا الضحية الأكبر في هذه المرحلة والتي لم يحصلوا فيها لا على الدولة التي وعدوا بها ولم ينجوا بروحهم من المجازر المتعاقبة على مر القرن العشرين في الدول التي تقسيم جغرافيتهم عليها. والنتيجة التي وصلنا إليها بعد الحربين العالميتين وعلى أساس التخلص من الظلم العثماني هي أنه عاشت المنطقة مرحلة أسوأ مما كانت عليه وزاد القتل والدمار والتهجير والفساد والسرقات والمجازر.

الآن ونحن ندخل الألفية الثالثة وكأن التاريخ يُعيد نفسه وبنفس الأسماء تقريبًا "روسيا وفرنسا وإنجلترا" مع إضافة أمريكا لها طبعًا، نعيش نفس المجازر والدمار والقتل والتهجير وكذلك نفس المصطلحات تقريبا وإن تم تحديثها نوعًا ما، إلا أنها لم تخرج عن جوهرها، الحرية والكرامة والتخلص من الجهل والفساد وغيرها الكثير التي نستعملها ولا ندرك معناها.

توماس أدوار لورانس أو كما يُعرف بـ "لورانس العرب" كان عرَّاب التقسيم وما سمي "الثورة العربية الكبرى" والتي كانت بداية الحرب العالمية الأولى وانهيار الخلافة العثمانية وسايكس-بيكو ووعد بلفور وتقسيم جغرافية كردستان واحتلال فلسطين، والآن برنارد هنري ليفي عرَّاب ما سمي "ثورات الربيع العربي" والتي ستكون فتيل الحرب العالمية الثالثة وتفتيت ما تبقى من الجمهورية التركية ولافاروف-بومبيو وتشكيل كردستان من دون "عفرين" وفلسطين من دون "القدس".

تركيا أردوغان هي الوكيل الحصري لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد والتي تنفذ ما يُملى عليها، قد شارفت على انتهاء دورها المنوط بها في قتل الشعب السوري والعراقي بشكل عام والشعب الكردي في عفرين وتهجيره من مدينته وتوطين المرتزقة من الغوطة فيها، هي الخطوة الأولى لتهجير آخر سيتم في القدس وغزة وبذلك سيتم وضع اللمسات الأولية لشكل المنطقة الجديد، وتهجين الشعوب وتنميطهم لقبول الواقع الجديد.

العقلية السلطوية الاقصائية الممتدة من آلاف السنين ما زالت مستمرة حتى راهننا وبأسماء مختلفة ولكن المنطق هو هو لم يتغير حتى الآن، وإن دخلنا الألفية الثالثة لكننا ما زلنا نعيش مرحلة توحش الانسان على أخيه الإنسان.

فللحاكم والأمير والقائد والرئيس مطلق الحرية في قتل من يريد وتهجير من يراهم خونة وكفرة وكل من لا يطيعه، كل ذلك يتم باسم الله والدين لأنه هو من يمثل الله على الأرض.

هذه حسابات القوى الرأسمالية الدولية من شرقها لغربها والإقليمية التي ما هي إلا عن أدوات يتم استخدامها وقت الحاجة، بينما تبقى للشعوب كلمتها الأخيرة في عدم الخنوع وقبول الخنوع وكأنه أمر واقع، إذ، عملت النظم الحاكمة على تنفيذ ما يُطلب منها وترويض الشعوب بالجوع والترهيب تارة والامتيازات تارة أخرى، إلا أنَّ الحركات الشعبية والثورات التي كسرت جدار الخوف لم يعد يهمها ما تريده النُظم الحاكمة ولا ما تريده القوى الرأسمالية بقدر اهتمامها بمطالبها هي في الحرية والكرامة.

لا يمكن القضاء على الشعوب بزرع الفتنة والاقتتال فيما بينهم إن كان على الهوية القوموية أو الطائفية كما كان في القرن العشرين، لأن الشعوب أدركت ألاعيب القوى الناهبة وأنه لا بد للشعوب أن تتكاتف على أساس متين وأن تعيش مع بعضها البعض على أس العيش المشترك فيما بينهم وأخوة الشعوب لبناء مجتمع يعيش فيه الكل مع الكل.

فالتغيير الديموغرافي هو نفسه الإبادة الجماعية ولا يمكن التلاعب بالمصطلحات والتستر خلفها لأن الإنسان بطبيعته مرتبط بالثقافة التاريخية التي هي من مفرزات الجغرافيا بحد ذاتها، التغيير الديموغرافي وإجبار السكان على ترك أرضهم يعني فيما يعنيه الابتعاد عن الذكريات والارتباط بالأرض والعمل والكدح الذي هو أساس بناء المنظومة الثقافية لأي شعب.

واجتثاث وإبعاد الإنسان عن أرضه ووطنه أخطر من القتل، وربما أن هناك خطة الكل متفق عليها لتنفيذها، وذلك لإسكان عوائل غريبة إن حدث هذا في عفرين أو ما سيحدث في أماكن أخرى.

فلسفة الأمة الديمقراطية التي تم قبولها وترسيمها كمبدأ للعيش في روج آفا، جعل من هذه المدينة هدفًا لكل القوى المتصارعة بغية نشر الحرب الأهلية فيها وتدميرها وقتل الحياة فيها كباقي المدن الواقعة تحت سيطرة النظام أو المعارضة.

ثقافة العيش المشترك كانت الغالبة على كل من يعيش في عفرين والتي كانت كسوريا المصغرى استقبلت الجميع بغض النظر عن القومية والدين والمذهب، أي أنها كانت الاستثناء من القاعدة العامة في سوريا، حيث في كل المدن السورية الخاضعة للنظام أو المعارضة كان الكل يقتل الكل على الهوية، إلا عفرين قلبت الآية رأسًا على عقب، إذ كان الكل يعيش مع الكل وهذا ما جعلها هدفًا للقوى الإقليمية والدولية التي تبحث عن الربح الأعظمي والذي لن يتوفر إلا من خلال إشعال فتيل الحرب والتدمير وبيع السلاح لكل الأطراف ولتستمر الحروب من جهة ولتنتعش مصانع السلاح من جهة أخرى.

الكرد الآن يحملون لواء العيش المشترك وأخوة الشعوب والتي أساسها فلسفة القائد عبد الله أوجلان في الأمة الديمقراطية البعيدة عن العقلية السلطوية والدولتية والتي تؤمن بأن منطقة الشرق الأوسط ليست مجموعة من الدول بقدر ما هي مجموعة من الثقافات المتعايشة مع بعضها البعض منذ آلاف السنين، وأنها ستستمر في ذلك وتحجم العقلية الدولتية والسلطوية التي تسعى وراء ربحها الأعظمي والتي أصبحت مسننًا صدِءًا في ميكانيكا الرأسمالية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط