الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الليلة عيد ع الدنيا سعيد


ساعات باقية ويهل علينا هلال العيد، ليملأ قلوب المصريين فرحة وبهجة وسعادة غامرة. والسعادة هنا ليست إبتهاجًا بالعودة إلى الإفطار، أو عودة المرء إلى حياته التقليدية، أو عودة الجهاز المعوي إلى العمل بكامل طاقته المعهودة طوال العام، تحميل ودمج، وطحن، وعصر، وجذب، وطرد....مسكينة هي المعدة وأخواتها، 335 يومًا في العام يعمل هذا الفريق بقدرة الله وإرادته ليحيا الإنسان صحيح البنية...ويأتي الصيام راحة إلزامية من رب العالمين لهذا الفريق، لتهدأ الأجزاء الثائرة على كل دخيل إليها....ويتنفس المرء الصعداء، بعد رحلة عناء طوال أحد عشر شهرًا.

ومصدر السعادة هنا أنه مع انقضاء شهر رمضان الكريم يكون الإيمان قد استقر في قلوبنا جميعًا، وارتفعت المعنويات والروحانيات إلى أقصى درجاتها، من خلال العبادات، والصلوات، والدعوات في جوف الليل، والزكاوات، والإحسان للفقراء، وصلة للرحم؛ إضافة إلى القاعدة الدينية التي تلزمنا بإمساك النفس عند الغضب طوال هذا الشهر الكريم: "إني صائم، إني صائم"، وكأن فيها صمام أمان للجهاز العصبي، إلا من رحم ربي ممن أصيبوا بلعنة التدخين وملحقاته مجبرين، غير راضيين.

هنا تأتي فرحة المصريين الحقيقية بعد أن اجتهدوا في إتمام المناسك والعبادات، وقد شعر المرء أن الله قد رضي عنه، وأنه كان قريبًا منه طوال الشهر الكريم؛ وهي فرحة ذكرتني بفرحتي وأنا أخلع ثوب الإحرام بعد رمي الجمرات في اليوم الأول من أيام التشريق أثناء أدائي لفريضة الحج للمرة الأولى. لا أستطيع أن أصف سعادتي آنذاك، والفرحة التي كانت تبرق في عيون الحجاج وهم يهنئون بعضهم البعض بإتمام أولى مناسك شعيرة الحج.

ومثلما استعدالمصريون لاستقبال الشهر الكريم باستعدادت خاصة تضفي دومًا مذاقًا فريدًا على رمضان مصر المحروسة، وارتباط الذاكرة الجمعية لهم بطقوس بعينها، لعل أبرزها فوانيس رمضان المصنوعة محليًا على أيدي فنانين وصناع مهرة احترفوا المهنة أبًا عن جد، تتلألأ وهي معلقة كنجوم في السماء، ينطلق الضوء من خلال زجاجها المعشق ذا الألوان الخلابة، فيخطف الأبصار ويسر الناظرين؛ وصوت فنان الشعب ينطلق من الإذاعة المصرية عبر الأثير معلنًا قرب مجيء الشهر الكريم في أحلى كلمات حفظناها عن ظهر قلب، كنا ولا زلنا نرددها في كل آوان: "رمضان جانا وفرحنا به، غنوا وقولوا أهلًا رمضان"؛ أو كلمات بيرم التونسي التي تغنى بها ملك العود عام 1956 قائلًا:
"هلت ليالي حلوه وهنية ليالي رايحة وليالي جاية
فيها التجلي دايم تملي ونورها ساطع من العلالي
هلت ليالي هلت ليالي"

استعد المصريون أيضًا لاستقبال العيد المبارك، حيث يصبح السير في شوارع مصر المحروسة عشية اليومين الأخيرين من رمضان متعة لا توازيها متعة في العالم؛ فالكل ينطلق فرحًا باستقبال العيد، تعلو وجوههم ابتسامة عريضة تعبر عن رضاهم بما أدوه خلال الشهر الكريم؛ والكل –كعادتنا- يجتهد لشراء أبهى الثياب لاسيما لأطفالنا، لنخرج لصلاة العيد في أبهى حُلة، ونكاد في هذا اليوم نطبق جميعًا الآية القرآنية القائلة: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ".

ومن العادات التي استقرت بيننا تجهيزات ليلة العيد! ذلك المشهد من الكر والفر، والإقبال والإدبار، داخل بيت العائلة، فهناك من تمسك بمنقاش الكعك، وأخرى تحرك ماكينة البسكويت، وثالثة تجهز صواني الفرن، وأمي قائدة توجه هذه وتلك؛ ولم تكن فرحتنا داخل البيت تكتمل إلا بدخول أم جورج-جارتنا الحبيبة-علينا لتهنئنا بالعيد وتمد يدها بالمساعدة في إعداد الكعك وباقي الأصناف، وما أن تصل إلى بيتها المجاور إلا وطبق الكعك يسبقها إلى هناك.

ومن المظاهر التي تعم شوارع مدن وقرى مصر المحروسة، معبرة عن فرحتنا بالعيد صوت قيثارة الشرق؛ فالكلمات تتردد على ألسنة الكافة كل عام معلنة استقبالنا للعيد وكأنها كتبت اليوم أو الأمس القريب. من يتخيل أن أغنية أم كلثوم عام 1939 ستصبح عرفًا يجري بيننا على مر السنين، وهي تتغنى بكلمات أحمد رامي:
يا ليلة العيد آنستينا ... وجددتي الأمل فينا
جمعت الأنس ع الخلان ... ودار الكاس على الندمان
وغني الطير على الأغصان ... يحيي الفجر ليلة العيد
إنه كرنفال المصريين، وفرحتهم بالشهر الكريم وعيد الفطر، التي لم أرها في أي بلد عربي بنفس هذا الزخم، بل لا أبالغ في القول أن السياحة العربية لمصر تصل لأعلى معدلاتها خلال تلك الفترة...والليلة عيد ع الدنيا سعيد.
كاتب وأستاذ أكاديمي
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط