الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لا تطأطئ الرأس... اِزْهُ بعروبتك!


إن أشد أنواع الهزائم وأقساها هو الهزيمة النفسية، فمهما بلغت الهزائم الحربية من نتائج – تصل ربما لدرجة كارثية - ومهما ألحقت من دمار، فإن ذلك يظل أهون كثيرا من الهزيمة النفسية، تلك التي لو تغلغلت في أمة من الأمم، فإن ذلك يعني النهاية الحتمية لهذه الأمة، ومن هنا لابد من صناعة سياجٍ يحمي نفوس الأمم. يضمن لها مجابهة النوائب، ويعمل على الحفاظ على مكونات تلك الأمم، فلا تفقد قيمتها في نفوس أبنائها.

إن من خطط الأعداء التي لا يألون جهدا في العمل على الإتيان بها، وتنفيذها بدرجة عالية من الدقة، تلك التي تكون مهمتها الرئيسية أن تفقد الأمم التي يحاربونها ثقتهم في أنفسهم، وقناعتهم بذواتهم، وإيمانهم بمبادئهم، ومن ثم دورهم الذي يجب أن يؤدونه في محيطهم والعالم.

ولا شك أن الأيام دول، فمرة تدول لهذه الأمة وأخرى تدول لتلك، وذلك لا يكون إلا من خلال عمل مبني على فكر، ناتج عن قناعة بمبادئ هذه الأمة أو تلك، فيأخذ أبناؤها على عاتقهم تقديم مشروع حضاري استطاعت العقول المستنيرة للأمة أن تصيغه صياغة قابلة للتنفيذ.

هناك أمم ساهمت في الحضارة الإنسانية بشكل ملفت، لا يمكن للعين أن تتخطاها، ولا يستطيع البنان ألا يشير إليها، مهما حاول المغرضون سلب تلك الأمم من دورها التاريخي، هؤلاء المغرضون لا يسلكون مثل هكذا مسلك دون وعي ولا إدراك، ولكنهم يشتغلون على ذلك وفي عميق تفكيرهم تحقيق نصر على هذه الأمم، وإصابتها بهزيمة تنال منها منالا عظيما طويل الأمد، لما تمثله هذه الأمم لهم من خطر، بما تمتلكه من مقومات: مادية ومعنوية قادرة – حال إحيائها – على التقدم ونشر قيم تهدد مكانة محاربيها وتعيد صياغة الواقع الذي استأثر فيه الأعداء بالنصيب الأوفر من المكاسب والمغانم، تلك الصياغة التي تسلبهم ما اعتبروه حقا.

من الأمم التي ساهمت في الحضارة الإنسانية بسهم هام الأمة العربية، فهي العمود الفقري للحضارة الغربية الحديثة، ذلك الذي يحاول أعداء الأمة أن يمحونه محوا – ليس فقط من ذاكرة أبناء الأمة بل من التاريخ الإنساني، في محاولة مستميتة لسلب الإنسان العربي و المسلم فضله في رقي الحضارة البشرية، فيعمل هؤلاء الأعداء على تكريس فكرة أن العربي يعيش عالة على الحضارة الحديثة، وأنه لم يسهم قط في هذا التطور الهائل في العصر الحديث، وأنه ليس أكثر من المستهلك – في صورة سيئة – للتكنولوجيا التي أبدعتها العقول الغربية التي تدين لها الحضارة بالكثير بما أبدعته قريحة أبنائها التي يضعونها في مرتبة تفوق كافة القرائح وخاصة العربية التي ينسبون كل نقيصة – في إطار تلك الحرب النفسية - في تعمد مقيت لها.

لو سلكنا نحن – العرب - نفس مسلك هؤلاء، لاتهمنا الإنسان الأوروبي الغربي في أعز ما يتباهى به وهو العقل، فالأكيد والذي لا يحتاج برهانا، كما لا يقبل جدلا، أن الحضارة في عمومها والعلم في كليته، ليس حالة آنية، ولا مجرد ظاهرة وقتية، ولكنها – أي الحضارة – حالة إنسانية تراكمية، وهو – أي العلم – حلقات متتابعة، وكأني بمن يريد أن يسلب العربي دوره في الحضارة والعلم الحديث، كمن يرى من الهرم رأسه، ولا يعلم أن لهذه الرأس قاعدة وجسم، تم بناؤهما وتكوينهما عبر أجيال بشرية متعاقبة، كان للعربي فيها أحد أهم الأدوار – ولا نقول أهمها حتى لا نسلك نفس المسلك الشوفيني الذي يسلكه المغرضون.

فهذا التطور العلمي الهائل في عصرنا الراهن لم يكن ليتم لو لم يقم العربي بدوره في الحفاظ على العلوم الأوروبية القديمة والاستفادة منها وتطويرها والبناء عليها وإيصالها لغيره من بني البشر – الأوربيين – لاستكمال طريق العلم والحضارة الشاقة، فإذا كان العلم اليوناني القديم هو قاعدة الهرم، وما نراه اليوم هو قمته، فإن ما أسهم به العقل العربي لهو جسم هذا الهرم.

ونحن لا نقول هذا قولا خاويا لا ينهض على قدمين، ولا يصمد أمام التأمل والمجادلة، ولكننا نقر واقعا أقر به قبلنا المنصفون من كافة الأمم.

ففي اللحظة التي كان الغرب في متاهة الجهل وغياهب التخلف كان العرب يسطرون مجدا، ويشيدون حضارة إنسانية بمعنى الكلمة.
فحينما يسود عدم الثقة وسوء الفهم علاقة الإسلام والغرب فإنه من الأهمية بمكان تذكر ما كانت عليه حضارة الإسلام و مكانتها، ليس من منظورنا بل من منظور المنصفين من أبناء الحضارة الغربية، ويأتي كتاب "تاريخ ضائع" ليربأ الصدع بين الحضارتين الإسلامية والغربية ويكون أساسا لكل من يسعى لفهم الأثر الذى أحدثه المسلمون الأوائل في مجتمعنا الحديث. حيث يكشف مؤلف الكتاب مايكل هاميلتون مورجان وهو دبلوماسي سابق ورئيس منظمة أسس جديدة للسلام. كيف أن الإنجازات التي حققها المسلمون في العلوم والثقافة وضعت حجز الزاوية لعصر النهضة والتنوير في أوروبا ويعرض الكتاب سردا زمنيا للعصور الذهبية للحضارة الإسلامية بدءً من سنة ٥٧٠ م أي مع ميلاد النبي محمد (ص) مع بيان صدى ذلك في العصر الحاضر. وهو يعرض لعلماء أمثال ابن الهيثم وابن سينا والطوسي والخوارزمي وعمر الخيام والإدريسي وهى شخصيات رائدة أحدثت ثورة في علوم الرياضيات والفلك والطب والجغرافيا في عصرها ومهدت الطريق أمام نيوتن وكوبرنيكس وآخرين كما يذكرنا بالقادة المسلمين الذين ألهموا العالم وعلى رأسهم النبي محمد (ص) مرورا بسليمان القانوني ومن جاء بعده وتجلت في عصورهم مظاهر التسامح الديني وازدهر البحث العلمي والفكر و باتوا أنفسهم رعاة للفن و الأدب والعمارة. فأُنْتِجَت أعمال لا تزال تفتننا بروعتها وحرفيتها العالية واتقانها المنقطع النظير.

ونستطيع أن نرى من هذه النماذج المنصفة أيضا للعقل العربي والعلم والحضارة العربية الملك الألماني فريدريك الثاني إمبراطور الرومانية المقدسة (1220-1250) ملك صقلية (1198-1250) الذي كان مبهورا بالحضارة والثقافة العربية الإسلامية وكان يشجع على دراستها كما يحث على الترجمة منها لينهض ببلاده وأوروبا، وفي عهده أصبحت صقلية مركزًا هامًا لانتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؛ لتكون حلقة الوصل الأهم في التاريخ الإنساني للحفاظ على العلوم القديمة والإضافة إليها ونقلها لأجيال وأمم تبني عليها لترتقي – هذا ما يجب أن يكون – الإنسانية.

ولقد عكس اهتمام الملك الألماني فريدريك الثاني - الذي كان على صراع مع البابوية للسيطرة على إيطاليا – بالعلوم العربية وترجمتها، جانبا هاما في العقلية الأوروبية - ذلك الحين – في أعلى هرمها، حيث أغضب هذا الاهتمام رجال الدين المسيحيين فاتهموا الملك بالهرطقة أو الخروج عن الدين.

إن السياج الذي يحمينا من تلك الهجمة الشرسة على كل ما ومن هو عربي ومسلم يتمثل في تاريخنا العظيم الذي يجب أن نتدارسه درسا دقيقا، كما يتمثل في التعرف على حضارتنا العربية الإسلامية التي كانت مقصد الدنيا كلها، والتي ستظل مبعث فخرنا، وأكبر حافز لأبناء أمتنا للنهوض من كبوتنا مرفوعي الرأس لا مطأطئين، مزهوين بأصلنا العربي الإسلامي.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط