الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سيأتي يوم ونفيق من غفلتنا


في عام 2016 كلفت بالسفر إلى ألمانيا، وكان قد سبقها زيارات لبعض الدول الأوروبية، التي لم تلفت انتباهي بشدة للفجوة الحضارية التي نعيشها في مصر كما فعلت بي ألمانيا، وعند خروجي من مطار برلين كان يتعين عليّ إما أن آخذ تاكسي المطار أو الحافلة، التي قررت أن أركبها؛ فسألت عن تفاصيل الرحلة فكانت الإجابة اشتري التذاكر من كشك بالمطار، وتوجه للخارج واركب حافلة رقم كذا إلى وسط برلين حيث وجهتي. 

وصلت الحافلة دون نعيق أو ضجيج أو موجة من السخونة النفاذة لتلهب وجهك. نظرت إلى سيدة تقودها بشياكة وسألتها مبتسمًا، فأجابتني اركب رقم كذا لأنه سيكون أفضل لوجهتك. لم ألق محصلًا (كمساري) واحدًا يوحد ربنا، ولم يسألني السائق عن التذكرة سواء ختمتها أم لا، فالضمير والقانون هما ما يحكمان المواطنين كافة.

قمت بعدّ الكراسي فوجدتها لا تتعدى 15 كرسيًا، معظمها مخصص لذوي الحالات الخاصة، لم أر تكالبًا وتصارعًا بين الركاب عليها، فالكل يؤثر الآخر على نفسه حتى وإن ظل واقفًا طوال الرحلة.
 
لم أشعر بمطب واحد على الإطلاق، بل هدهدة لطيفة بين الفينة والأخرى؛ وتعلوك لوحات اليكترونية تظهر عليها بيانات المحطات ومعها تنبيه بصوت نسائي رقيق، ثم أعلن السائق في المايك قائلًا: "الكسندر بلاتز"، وكأنه ينبهني إلى وجهتي فشكرته ونزلت؛ وقبل النزول لاحظت أن مستوى الباص قد قرب من الأرض، وهرع السائق ليفرد زلاجة ليصعد عليها أحد المعاقين حركيًا دون مساعدة من أحد. وبعد نزولي وجدت الباص قد ارتفع مستواه عن الأرض ثانية وانطلق. وقفت أتابعه بإعجاب شديد، ولم لا وعلامته التجارية المشهورة بها ألمانيا تبتسم عند مؤخرته وقد كتب تحتها "مرحبًا بك في ألمانيا".

وقتها هاجت عليّ الذكرى تؤلمني، والحسرة تملأ جوانحي، فبلدي هي أم الدنيا، ومع ذلك نقف في الصف الثالث بين شعوب الدنيا. تذكرت كيف للمرء أن يعيش تجربة حياتية كاملة داخل حافلات القاهرة المحروسة، فما بين الزحام والتكدس والتصاق الركاب ببعضهم البعض، وحكاويهم الأسرية، والمواقف غير الأخلاقية، والمشاجرات، إلى الباعة الجائلين الذين يقذفون الركاب بقذائف اللبان والعسلية، ليأتي آخر ويلقي عليك كتاب أركان الصلاة دون أن يدري أكنت مسلمًا أم مسيحيًا، إلى ثالث يصعد ليلقي عليك التحية والسلام ثم يتبعهما بقصيدة بائسة لترق له وتساعده في تربية الأيتام. 

وعند النزول يجب أن تستعد قبلها بمحطة على الأقل لتتمكن من تخليص نفسك من بين الركام؛ وتصبح من الناجين عند وصولك إلى الباب بسلام، دونما إصابة من اللئام؛ وهي تجربة مريرة عشتها مرارًا في حافلات المحروسة من دون كلام.

أما عن سلوكيات قادة الحافلات بقاهرة المحروسة فحدث ولا حرج، فمنهم، وهم قلة بكل تأكيد، من يتمتع بنعمة الصوت العالي ويعيش يومه في حالة شجار إما مع نفسه أو مع المواطنين، ناهيك عن الوقوف والانطلاق الفجائي عند كل محطة مع المقصات والغرز، وكأن الركاب أعجاز نخل تتقاذفها الريح، وعدم التزام البعض بالتوقف عند كل محطة لزمن كافٍ، والأتربة والبصمات والقذارة التي تحيط بكافة أرجاء الحافلة، والأخطر من ذلك الوقوف في نهر الطريق لسبب لا يعلمه إلا السائق.
 
وأشهد الله أنه ذات يوم انحرف سائق الحافلة نحو مقهى، وأسرع إليه القهوجي وناوله كوبه اليومي من الشاي، ثم عاود السائق رحلته؛ وآخر توقف فجأة وترك مقعده وهرع نحو كولدير ماء بالطريق العام أو ليشتري علبة سجائره اليومية. 

عدت بسلامة الله بعد أسبوع إلى أرض الوطن وفي مطار القاهرة مررت على محطة الأتوبيسات هناك لأجدها تطالعني بعبوس عاتبة علي لأني فضحت أسرارها، وقلت في نفسي: ولو! سيأتي يوم ونفيق من غفلتنا وستبتسم حافلاتنا في وجوهنا قائلة للرواد والسائحين "مرحبًا في مصر، أم الدنيا"!


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط