الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مقهى "عم طه" خطوة في رحلة الوعي


تترك الأماكن كما تترك الأزمان على الإنسان أثرها، والمكان في حد ذاته، كما الزمان أيضا، وعاء، للأحداث والمناسبات والفعاليات المختلفة، ويرتبط مكان ما في الذهن بما تم فيه عمل أو فعل، وبما وقع فيه من أحداث، ويأخذ المكان أيضا قيمته من تلك الفترة العمرية التي عايش فيها الشخص هذا المكان، فما يخطه الزمن في نفس الطفل وما تسطره الأحداث في ذهن الصبي، وما تنقشه في قلب الشاب، وما تنحته في روح الرجل، ليس كله سواء، بل تظل السنون الأولى في العمر هي المشكِّلة للوجدان، والمكونة للعقل، والمغذية للروح.


لم يكن لدينا - نحن أبناء القرى والعزب الصغيرة - أماكن نلتقي فيها بعضنا البعض، لنتسامر ليلا، مثل تلك التي كانت منتشرة في المدن الكبيرة، التي كانت تحظى بالنوادي ومراكز الشباب وقصور الثقافة، لم يكن هناك مكان يمكن أن نجتمع فيه غير المقاهي، والتي كان عدد منها ذات سمعة لا تسمح لمن يسعى للحفاظ على مكانته أن يتخذها مجلسا، وفي المقابل حافظت بعض المقاهي على سمعتها فأصبحت تستقطب الشباب الجامعي، وكذلك الموظفين ليجعل فريق منها المقهى منتدى أدبيا وثقافيا وفنيا.

مقهى "عم طه" بمدينة الجمالية بمحافظة الدقهلية كانت إحدى تلك المقاهي التي تحولت - على يد فريق من مرتاديها - إلى منتدى بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فكانت هي الملتقى الذي يجمعنا لتعقد فيها حلقات نقاشية ابتداء من الرؤية النقدية لأحد الأفلام مرورا بالحفلات الغنائية، وأذكر هنا أن حفلة السيدة فيروز على سفح الهرم في العام ١٩٨٩ والتي جاءت تحت شعار - مصر عادت شمسك الذهب - شغلتنا كثيرا، لتوقيتها ولاختيار مكانها، أما الاهتمام بها فكان هائلا، لدرجة جعلت بعض العاشقين ل "جارة القمر" أن تأتي إلى مصر من كل قارات العالم، وكانت صدمتنا - نحن العاشقين للقيثارة - هائلة حيث لم يستطع التليفزيون المصري بث الحفلة على الهواء مباشرة لعدم تجاوب المتعهد أو بالأحرى تنازله عن بعض الحقوق المادية، ليكتفي ماسبيرو بنقل الدقائق الأولى التي جاءت بصوت رديء نظرا لعدم الاستعداد المناسب للنقل من فضاء كما هو الحال تحت سفح الهرم.

كانت مقهى "عم طه " مسرحا لحلقات نقاشية في كافة المجالات، ربما تبدأ بالرياضة وتنتهي بالفلسفة حيث المقال الأسبوعي للفيلسوف الكبير الأستاذ ذكي نجيب محمود الذي يُنْشر يوم الثلاثاء في جريدة الأهرام، والذي كان أغلب الأصدقاء - المهتمين بالطبع - يحرصون على قراءته والتوقف عنده ليصبح مثار مناقشة كبيرة، تدفعنا إلى العودة للنظر في كتب الرجل الذي كنا نجد صعوبة في اقتنائها لعدم توفرها في مدينتنا الصغيرة من ناحية، وعدم امتلاك المال من ناحية ثانية، ذلك الذي كان يجعل الكتب تدور بيننا جميعا، فتنتقل من صديق إلى آخر بعد أن يعيرها صاحبها لمن يريد قراءتها.

لم يغب عن مقهى "عم طه " المجال الديني، فكان حديث الشيخ الشعراوي الأسبوعي مجال نقاش وأخذٍ ورد فيما ذكر الشيخ، واتفاق- عند الأغلبية - بما يصدر عن الرجل واختلاف في بعض الحالات، ولم يغب عن محفل ذلك المقهى الذي نَقش في نفسنا آثارا هائلة ما يتعرض له المجتمع المصري من تغييب للعقول من خلال نشر الإيمان بالخرافة وإحالة الكثير من الأمور لعمل الشياطين والجن، فكان شريط الكاسيت الذي انتشر في نهاية ثمانينات القرن الماضي والذي قيل أنه تم تسجيله في أحد مساجد شارع العباسي بمدينة المنصورة والذي يصور عملية استخراج "جن" من جسد إنسان مريض، دليل قاطع على غيبوبة تصيب المجتمع، فكان الرافضون- وكنتُ على رأسهم - لمثل هذه الأمور التي نعدها خزعبلات يتندرون على اسم "الجن" الذي كان "كنجور"، وكانت إحدى حلقات الشعراوي في برنامج من الألف للياء للإعلامي الكبير طارق حبيب والذي أكد فيه الشيخ ما أطلق عليه مبدأ تكافؤ الفرص وأنه لو أن هناك "جن" قد تحول إلى هيئة ما فإنه يظل عليها طالما وقعت الأعين عليه، هنا اتخذ ذلك أمثالنا شهادة تؤكد أن كل ما يثار في هذا الشأن في المجتمع المصري ما هو إلا عبث وخزعبلات. 


لقد كانت مقهي "عم طه " مكانا لأمسيات ادبية تخللتها الموسيقى والغناء؛ فكان اصدقاؤنا الذين ينظمون الشعر يتبارون في إلقاء قصائدهم، فاستمتعنا بجزيل الشعر من الصديق المرحوم أنور محمد أنور الذي كان كلاسيكي المذهب، ليرد عليه الدكتور فتوح مصطفى قهوة بقصائده التي نسجت على المدرسة الحديثة: ليقف بعضنا مناصرا للمذهب القديم، وآخرون للمدارس الأدبية الحديثة، وإن اتفق الجميع على الموهبة الفذة للشاعرين.

كانت آلة العود تصاحبنا على مقهى "عم طه " فينبري الصديق شريف البيلي البارع في العزف ليشجينا بنغمات أغاني كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، ليصدح صوت صديقنا المرحوم شبان البدري لينصت جميع رواد المقهى للاستماع والاستمتاع بالعزف والغناء.

أرى الآن ما ينعم به أبناء هذا الجيل فأنتظر منهم الكثير في عالم الثقافة والأدب والعلم، ويأخذني خيالي بعيدا في أن يحرر هذا الجيل الوعي والعقل المصري ومن ثم العربي، الذي حاولنا نحن أن نخطو فيه خطوة للأمام، وإن قَصُرَتْ بنا الإمكانات التي هي متحققة اليوم بكل سهولة ويسر.

ربما تأخذنا الحياة في رحلة عبر الزمان بعيدة عن المكان الذي ترك آثاره فينا، تلك الآثار التي ما تفتأ تذكرنا بالارتباط الوثيق بالبيئة التي نشأنا فيها وعشنا في دروبها وتعلمنا على يد أهلها ليظل الحنين للأماكن ساكن فينا، ما ظل عشقنا للوطن الذي حوى المكان والزمان والأنفس.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط