الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أفضل الأوقات التي نعيشها الآن


سعدت كثيرا بالتفاعل الكبير من القراء الكرام على مقالنا السابق الذي يأتي ضمن سلسلة مقالاتنا الأسبوعية لموقع صدى البلد المتميز، والذي حمل عنوان "مقهى عم طه خطوة في رحلة الوعي"، ولقد كانت أولى ملاحظاتي أن القراء الأعزاء الذين تفاعلوا مع هذا المقال كانوا من أقاليم مصر المختلفة، وكانت الملاحظة التالية أنهم - أو بالأحرى الأغلبية الساحقة منهم - كانوا من نفس جيلي أو من هم قبله بقليل، أو من هم بعده بقليل، والملاحظة الثالثة والتي كانت عامة هي تفضيل هؤلاء القراء لتلك المرحلة التي تحدثت عنها والتي كانت قبل هجرتي للقارة الأوربية أي ما يقترب من خمسة وعشرين عاما.

إن الملاحظة الأولى تعني أننا استطعنا عن نعبر عن حال الأقاليم المصرية المختلفة، وأن "مقهى عم طه " الذي اعتبرته أنا في المقال نموذجا لعدد من المقاهي في مدينتنا الصغيرة الجمالية بمحافظة الدقهلية والذي كان اختياري له سببا في أن يطالب بعضٌ من أصدقائي بتخصيص مقالات لمقاهي أخرى - مقهى عم مختار بالجمالية دقهلية أيضا نموذجا - كانت تشهد نفس الفعاليات والحلقات النقاشية الرياضية والفنية والثقافية والسياسية والدينية وصولا للفلسفية، ذلك الذي كان منتشرا على امتداد القطر المصري، أكد هذا التفاعل الممتد مؤكدا أن المقهى لأبناء جيلنا ظلت هي الملتقى الذي ينفث فيه المواطن المصري حالَه لأقرانه من المواطنين، كما كانت تتحول إلى كرنفالات في المناسبات الرياضية الهامة، وإلى "مهرجانات" سياسية في أيام الانتخابات.

والملاحظة التالية عكست الشوق الكبير والحنين الفائق لدى هذا الجيل في أن يسترجع تلك الذكريات التي يعتز بها، معترفا أنها كانت إحدى أدوات تشكيل الوعي لديه، كما كشفت من طرف خفي رفض هذا الجيل إلى الحياة المعاصرة، ليس كلها بكل التأكيد، بل بالأحرى رفضه لطريقة الحياة بهذا الشكل الحالي.

أما الملاحظة الثالثة والتي كان فيها تفضيل كامل لتلك المرحلة التي يمكن أن نحددها بسبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، يؤكد أن هناك تباينا كبيرا قد حدث بين الجيل الذي نتحدث عنه والأجيال التالية، ما جعل الكثير من الأجيال السابقة تطلق على تلك الأيام أيام الزمن الجميل، وهي عبارة تعكس حسرة منهم على تلك الأيام، كما تعكس سخطا هائلا على العصر المعاش، ذلك السخط الذي هو بالضرورة على أبناء هذه الأجيال الجديدة! فالزمن نفسه ليس محلا للسخط أو الرضى، لأنه فقط وعاء للإنسان والأحداث.

في عيادة طبيب نمساوي أذهب إليه للعلاج من بعض الآلام في العمود الفقري، والتي هي ملازمة لي دائما، شد انتباهي لافتة معلقة على الحائط مكتوب عليها " beste zeit ist jetz"وتعني "أفضل وقت الآن" وتوقفت عند المقصود من هذه العبارة، وتخيلت أن الطبيب قصد بوضع هذه العبارة أن وقت العلاج هو أفضل الأوقات، ووجدت قبولا منطقيا لتعليق هذه العبارة على الرغم من أن كل من هم في تلك العيادة في ذلك الوقت يعانون من الآلام، وأن آلام العمود الفقري من الآلام التي المزمنة وأن ما يقوم به الطبيب من علاج لا يعدو أن يخفف فقط تلك الآلام لتصبح مُتَحمَّلة.

وبعد بضعة أيام كان هناك ميعاد لي في إحدى المصالح الحكومية، وإذا بي وأنا في تلك المصلحة أشاهد نفس اللافتة معلقة " أفضل وقت هو الآن" وهنا أدركت أن المقولة فلسفة حياة عند من يعلق تلك اللافتة، وأنها تهدف إلى أن يعيش الإنسان اللحظة وأن يحيى حياته في كل مراحلها باعتبار أن لكل مرحلة جمالها ولكل زمان روعته، وأن الزمن الجميل الذي نطلقه – نحن أبناء الجيل الأكبر الآن – لم يكن عند آبائنا أو أجدادنا هو نفسه الزمن الجميل، بل كانوا ينظرون لأزمان فائتة باعتبارها ذلك الزمن الجميل، وأن أبناء هذا الزمن الذي نرفضه نحن سوف ينظرون إليه بعد عدة عقود على أنه الزمن الجميل، ذلك الجمال الذي هو ساكن في أعماقنا، والذي ربما نريد استرجاعه لاسترجاع ما لا يعود مطلقا من شباب مفعم بالحيوية، وطموح هائل لم يعرف حدودا إلا بعد أن سرنا في الحياة مسيرة طويلة واجهتنا في عقبات كثيرة، حققنا ما حققنا، وأخفقنا فيما أخفقنا، ولكن يظل الأجمل أن نعيش الآن مستسلمين لنداء جبران:

هل فرشت العشب ليلاُ و تلحفت الفضا
زاهدًا في ما سيأتي ناسياُ ما قد مضى
ساعتها سنجد الجمال مقيما فينا في تلك اللحظة لنحقق فلسفة "أجمل الأوقات الآن".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط