الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أماني عبد الرحمن تكتب: عن قطار الغلابة

أماني عبدالرحمن
أماني عبدالرحمن

وقفت وسط زحام القطار ساخطة على كل شيء حولها، بل فى حالة من الغضب، فقد هالها زحام القطار الذى لم تره من قبل.. إنها ابنة الطبقة المتوسطة، لم تكن أبدا صاحبة الطبقة ميسورة الحال، ولكن لم تكن لتستقل ذاك القطار الذى لا يرتاده سوى أصحاب الطبقة المعدمة.

راحت تتذكر ما حدث وجعلها تضطر أن تستقل قطار الغلابة كما أطلقت عليه بعد ذلك....

وبنظرات متعاقبة ومتمردة راحت تجول بعينيها عربات القطار.. الناس فى كل مكان على المقاعد.. على أبواب القطار .. حتى الأماكن المخصصة للحقائب لم تخلُ من البشر!!!!

كان الزحام شديدا لدرجة أنها لم تعد ترى أجساد الركاب بل عيونهم!!

أخفضت نظرها تتفحص قدميها التى بدأتا تؤلماها من طول الوقوف فى انتظار مقعد خال تجلس فيه بالرغم من أن الأمل فى ذلك كان أقرب إليها من حلم الوصول لفينا مدينة الجمال'واستسلمت للزحام ....

وشخصت بعينيها بعيدا خارج القطار وانشغلت فى مشاهدة معالم الأماكن التى يمر عليها القطار فبدأت تعد البيوت ، والأشجار ، والأشخاص، ثم رجعت بذاكرتها قبل أيام من ركوب ذلك القطار....

وتناوبت على ذاكرتها أسباب سفرها إلى إحدى قرى الصعيد فى محاولة للبحث عن الشفاء لما ألم بها من مرض لا يعلم أحد تشخيصه أو علاجه ؛فأصبحت حالة مرضية غريبة نصح بعض المعارف والأقارب والديها بإرسالها لقريتهم بالصعيد، وزيارة الأماكن الروحانية ربما تجد الشفاء، لم يكن ذلك يتطابق مع معتقداتها ،ولكنها وصلت لحالة من الاستسلام نتيجة ما ألم بها من مرض ،فأصبحت كالمتعلق بالسراب وسط الصحراء ،أفاقت من شرودها على صوت قريب لها لم تستغربه.... لقد انشغلت بزحام الناس والذكريات لدرجة أنها نسيت إخوانها رفقاء الرحلة.

الغريب والمفاجأة التى لم تتوقعها أن أحد الأشخاص تنازل لها عن مقعده وكان هذا الموقف وسط هذا الزحام أشبه بالتنازل عن خاتم من الألماس.

وأخيرا....استقلت مقعدا، وتنفست الصعداء ، وراحت تتفرس فى وجوه البشر من حولها... أول الأشخاص بالطبع كان الشاب الذي تنازل لها عن مقعده ،وبنفس نظرة البغض لكل ما حولها!!! رأت أنه الوحيد صاحب الأخلاق فى هذا المكان ،فقد كان شابا فى مقتبل العمر يحمل وجهه سمرة النيل وعطاءه ، وقف الشاب مع زملائه عائدين من تأدية الخدمة العسكرية وانشغل الشباب بترديد بعض الأغانى القديمة لشادية" خايفة لما تسافر للبلد الغريب".

وبدأت الانفراجة....... ودبت نسائم الصيف عربات القطار ، وهبت معها نسائم الألفة والمحبة .

وفي المقعد المقابل.....

جلس شاب متوسط القامة يرتدى ملابس تدل على رقة الحال برفقته إحدى قريباته وابنتها كان شابا بشوش الوجه تظهر طيبته على ملامح وجهه الأسمر، وتظهر معها خفة ظله، وأخذ يحكى عن عروسه التى تنتظره لإحياء مراسم زواجهما وفجأة.... وبمنتهى الخفة قفز إلى أعلى وأحضر حقيبة صغيرة أخرج منها قطعة من القماش أهداها إليه صاحب محل الستائر الذى يعمل عنده، كان فى غاية الفرح بها !!

تعجبت لشدة فرحته وعلمت بعدها أن تلك الفرحة هى قمة الرضا...... فالسعادة الحقيقية ليست بقيمة الأشياء بل بالرضا بما نملك مهما كان ضئيلا...

وتركت الشاب الطيب مشغولا بالحديث عن فرحته المرتقبة وشاحت بوجهها على مقربة من مقعدها تجلس امرأة عجوز وقور ترتدى الزى الصعيدى الأسود وتضع على رأسها شالا من القطيفة السوداء، وعلى وجهها ترتسم خطوط وتجاعيد الزمن، وتحمل تجاعيدها تقلب الزمن وأحواله عليها، ويرتسم على وجهها حزن عميق والابتسامة لا تعرف لوجهها طريقا سوى لحظات قليلة جدا .

تعجبت كثيرا لوحدة تلك العجوز.. هل تسافر بمفردها ؟!أليس معها رفيق فى تلك الساعات الطويلة؟؟!! وراحت ترقبها لعلها تجد لها أنيسا أو جليسا؟!!. . .. . وبعد قليل وجدتها...... إنها السبب وراء ابتسامتها بين الحين والآخر.. فتاة صغيرة تلعب بكل مرح وبراءة. واكتفت الجدة بمراقبتها عن بعد وراحت توجهها بنظرات عينيها عن بعد وتبتسم لها إن أحسنت الصنيع .

بدأ الركاب يتجاذبون أطراف الحديث ويتبادلون الضحكات، وأخذ الجميع يهنئون العريس ، ويواسون المريض ،وينصحون صاحب المشكلة...... ذابت الحواجز بين المسافرين .. تشاركوا فى همومهم فخفت .. وتشاركوا فى أفراحهم فزادت .

ارتفع صوت شباب التجنيد وردد الركاب خلفهم أغانيهم.. تشارك الجميع فى الفرح فاتسع المكان ..اتسع بالمحبة والألفة بين الناس.. تبدلت مشاعر الضيق والمعاناة بالدفء والحب.

هنا وفى تلك اللحظة تعرفت سرا جديدا للحياة....