الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد عبد الوهاب.. ما بين بيتهوفن وفرانك سيناترا


عزيزى القارئ، لقد ترددت كثيرا فى الكتابة عن عملاق الموسيقى العربية المصرية محمد عبد الوهاب لاقتناعى التام أنه يحتاج إلي كتاب وليس مقالا لكى يستطيع أن يتذوقه القارئ والمستمع الذى يريد فهم ما يسمعه ليتذوقه ويستمتع به بشكل حقيقى، ولكن ألحانه التى تخترق الوجدان- حتي أجد أن أحدها يقتحمنى ولا يريد الخروج من أذني- وكذلك التأمل فى فلسفة حياته ورؤيته وهى بالمناسبة مادة غنية لمن يبحث لأنه كان يحب الأحاديث الصحفية والتواجد الإعلامى كما كان يتقن التعبير عن ذاته لما كان يملكه من ثقافة أصقل بها نفسه عبر الزمن، جعلانى أستسلم للكتابة ولكنى سأتعرض لجزء رؤيته الفلسفية لخلق العمل الفنى وهذا فى حد ذاته يغيب أحيانا كثيرة عن التحليل الفنى عند الكثير من المتخصصين الذين يهتمون أكثر بشرح التقنيات الفنية والمقامات وهكذا، دون الاهتمام بالجانب الوجدانى للمؤلف الموسيقى علي الرغم من أهميته لفهم واستيعاب موسيقاه، فمثلا لا يمكنك تذوق موسيقي بيتهوفن إلا بعد اطلاعك علي رؤيته الخاصة ومنظوره للحياة .

بعد إرهاصات فنية ومحاولات البدايات والتشبث بطريق الفن، يقابل سيد درويش فيكون هو المنظور الحقيقى والرؤية الواضحة لشكل الفن فى ذهن عبد الوهاب. التجديد، الوصول بالموسيقي المصرية إلي الشكل الذى يمكن أداؤه فى الغرب كما فى الشرق، البناء علي قوالب وأصول الموسيقي المصرية وليس التمرد عليها.

كانت تلك هى المبادئ الواضحة الراسخة عند الشيخ سيد درويش فى تجربته القصيرة الأجل والممتدة التأثير حتي يومنا هذا، وقد حفظ عبد الوهاب هذا الدرس جيدا وكان مفتاحه السحرى لحفر اسمه كأحد أعظم المؤلفين الموسيقيين المصريين- حيث لم يكن ملحنا بالمعني التقليدى – .

ثم جاءته فرصة تبنى أحمد شوقى له فنيا والتى يتعرض لها الكثيرون باعتبارها بوابته للقصور، ولكنها كانت فى الحقيقة بوابته لبناء شخصية واثقة، مثقلة بالثقافة والمعارف، تتذوق الشعر ومنفتحة علي ثقافات مختلفة لا تخاف من التعلم منها أو نقدها أحيانا.

أى أن شوقى أعطاه المنحة الذهبية التى جعلته يرى الأشياء بحجمها وقيمتها وأسقطت عنده فكرة الانبهار بأشياء قد تبدو عظيمة ولكنها غير حقيقية .

علي مدار هذا الوقت كان ينتج عبد الوهاب الكثير من (الأدوار الغنائية) التقليدية ولكن بألحان بالتأكيد جميلة، وكذلك العديد من الألحان الراقية ولكنها فى إطار الموسيقي المعتادة وآلاتها الموسيقية المستخدمة هى نفس الآلات المستخدمة فى الألحان الاخرى.

إلي أن ظهر لحن (لا مش أنا اللى أبكى) هل هذا لحن مصرى !!
قد بلغ هنا ضالته، وجد إجابة أسئلته التى بحث كثيرا عنها، إنه ليس لحنا تقليديا ولكن نستطيع أن نطلق عليه (مؤلفة موسيقية) مستخدما فيها آلات الأوركسترا الغربية باحترافية شديدة، وتوزيع موسيقي حقيقى ومتقن، لكن فى ذات الوقت بين الحين والآخر فى اللحن يذكرك بموسيقانا التقليدية باستعراض تركيبات لحنية لا تستطيع الأذن الغربية صياغتها، كذلك أعطي للحن نفس أهمية وشخصية الكلمات بمعني أن هناك مجالا لموسيقي منفردة.

قبل هذا اللحن لم يكن هناك من يتصور من الجمهور أن هناك موسيقى مصرية بهذا الشكل، إنها موسيقى كلاسيكية فى توزيعها وتناولها التعبيرى الانفعالى والإيقاعى، إلا أن التناول النغمى لا يخلو من جذور متعمقه لا تريد التمرد بقدر ما تريد التجديد. 

فى حين أنه مشهور عن عبد الوهاب اقتباسه بعض الجمل من مؤلفين عالميين مثل فيردى أو بيتهوفن، إلا أن سؤالا تردد كثيرا فى هذا الوقت: هل أصبح لدينا (فرانك سيناترا) فى الشرق؟ ولكن الحقيقة هى أن فرانك سيناترا هو من اقتبس جملة هذا اللحن بعد ذلك بسبع سنوات فى أغنيته الأشهر (غرباء فى الليل) وقد أعلن بنفسه عن هذا الاقتباس إعجابا بموسيقي عبد الوهاب .

هناك العديد من الأغانى له تعتبر مؤلفات موسيقية لا تقل أهمية عن (لا مش أنا اللى ابكى) مثل (كان أجمل يوم) و(يا مسافر وحدك) و(فى الليل لما خلى) ..

كان عبد الوهاب فى هذا اللحن يعيش صراعا عاطفيا حادا ما بين زوجته( إقبال نصار) و(نهلة القدسى) وبالتأكيد ان معاناته وحالته العاطفية كان لها أثر كبير فى خلق هذا العمل، وهنا يجب علينا الاعتراف بأن ما من فنان عظيم إلا وكانت حياته مليئة بالعوامل المساعدة التى تفجر مشاعره تجاه محبوبته والتى هى فنه فى المقام الأول، لن تجد فنانا مبدعا حقيقيا، إلا ولديه تقلبات ومحطات عاطفية لا تكون هى تجربته بحد ذاتها بقدر ما تكون عاملا مساعدا علي اكتمال تجربته – فنه- فهو معشوقته الحقيقية.

ويقول عبد الوهاب :( لحظة الإبداع عندي هي التي أشعر فيها بأننى عاشق ولهان ولا أستطيع فراق حبيبتي ولو لحظة واحدة. عندما يفاجئني خاطر لحن أشعر بقيمته وأنا في مكان ما أعتذر على الفور وأسرع إلي منزلى، وكأني ذاهب الى موعد مع حبيبتى التي لا يمكن الحياة بدونها، أعود مسرعا وكأني في خوف من أن تمل معشوقتى انتظارى وتذهب).

وفى ذات الوقت تجده شديد التفكر و التأمل فى علاقته الروحيه بالله والبحث الدائم عن وجوده فيقول: (عندما أندمج في عمل فنى أشعر أنني أقرب إلي الله أكثر من أي وقت، ربما كان السبب في ذلك أن الفن يخاطب مواقع الطهر في الإنسان" كالحب والجمال والخلق والمثل العليا والضمير والوجدان والخير" والله سبحانه وتعالى خير، فأنا أكثر قربا منه، وأنا ألامس هذه المواقع الطاهرة).

وعن ما يشعر به من خجل أمام عطاء الله له يقول:( كما أن هناك سببا آخر غامضا على الإنسان، بسبب عطائه من الله تعالى، فرضا الناس عن عمل فنان ليس مرتبطا بموهبته فقط أو قدرته فقط و خبرته، بل هناك شيء آخر اسمه القبول، الشيء الذي ليس له تفسير لكنه عطاء من الله يهبه من يشاء... فالفنان له علاقة مباشرة بالله ورضاه هو أكبر تكريم له).

هل من المعقول ألا نعطى فرصة حقيقية لأبنائنا للتعرف علي عظماء لدينا وأعمالهم مازالت قريبة ويتوقف المسئولون عن مناهج الأدب والنصوص والنقد عند الأدب الجاهلى و الذى هو ليس من تراثنا كمصريين فى شيء، وأصبح فى زماننا ضربا من الخيال أن يستوعبه شبابنا فتكون النتيجة النفور من التراث الفنى المصرى بكامله !!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط