الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في «الممرّ».. نورٌ وأغنية


قرار خدناه.. وحلمنا لسه في بدايته.. ومش خايفين من الأيام..

طريق رُحناه.. وحالفين نمشي لنهايته.. ورافضين كلمة "استسلام"..

(من فيلم "الممر" ـ كلمات: أمير طعيمة ـ وموسيقي وألحان: عمر خيرت)

فيلم "الممرّ" هو الاستخدام الثاني لهذا المُصطلح سينمائيًا، فالبداية كانت عام ١٩٧٢م مع فيلم "أغنية على الممر"، قصة علي سالم، وإخراج علي عبد الخالق، وربما سعى شريف عرفة مؤلف ومخرج الملحمة الوطنية "الممر" إلى استحضار هذا المُصطلح العسكري، الذي يُشير إلى الممرات الاستراتيجية بين جبال شبه جزيرة سيناء، والتي تعدُ بشهادة التاريخ الحية معجونة من لحم ودم، فكما عاش بها جنودُ وضباط القوات المسلحة المصرية مآسي القهر والانكسار في انسحاب ١٩٦٧، فقد شهدت في حروب الاستنزاف وعبور ١٩٧٣ معاني الفخر والانتصار. 

إعادة إنتاج القصص المُلهمة أمرٌ غير جديدٌ في تاريخ السينما المصرية، ولا يمكن اعتباره تكرارًا، خاصة إذا تم إبراز القصة بإمكانات أكبر، ووفق رؤية أشمل، وكان لذلك تأثير أقوى في الوصول بالرسالة والمغزى إلى الشريحة المُستهدفة، وهي العناصر الفنية التي توافرت بقدر كبير في فيلم "الممر"، وذلك مقارنة على سبيل المثال بفيلم يوم الكرامة الذي عُرض عام 2004م ـ وهو بطولة أحمد عز أيضًا ـ وأعاد تجسيد بطولات القوات البحرية المصرية في إغراق المدمرة الإسرائيلية "إيلات"، للمرة الثانية بعد فيلم "الطريق إلى إيلات" عام 1993م، ولعل كثيرون شاهدوا "يوم الكرامة" لمرة واحدة، ولكن يكفي أن يُعاد عرض "الطريق إلى إيلات" للمرة المائة، في ذكرى حدثٍ وطني، لنُتابع أحداثه بشغف من يُشاهده للمرة الأولى.

ما بين فيلمي "الممر" و"أغنية على الممر" نحو ٤٧ عامًا بالتمام والكمال، تكفي لأن نتجاوز فكرة المقارنة بينهما من ناحية النص، وتجسيد الشخوص، ومختلف الجوانب الفنية، والتقنيات السينمائية المستخدمة، إلا أن نقاط التشابه بين الفيلمين تبدو مُثيرة للرصد، جاذبة لتسليط الضوء والتحليل، فكلا العملين السينمائيين يُركز على الفترة الزمنية الحرجة ما بعد انسحاب عام ١٩٦٧م، لتشريح شعور الضباط واحباطاتهم، وروحُ اليأس التي سادت حينها، فهم لا يعلمون كيف وقعت الهزيمة، ولماذا كان عليهم ترك عتادهم ومغادرة سيناء في انسحابٍ مكشوفٍ غيرُ مخططٍ أو مُؤمن بغطاءٍ جوي، أقربُ للفرار، كما أن كلا الفيلمين سعى لتوثيق بُطولات الجيش المصري على أرض سيناء الغالية في أعقاب الهزيمة، لتجاوز الروح السلبية، والتمسك بالأرض وعدم التفريط فيها، وتقديم التضحيات في سبيلها.

إن فيلم "أغنية على الممر" الذي عُرض قبل عام من نصر أكتوبر 1973، كان هدفه الإعداد النفسي للمواطنين قبل معركة التحرير، من خلال التذكير بتضحيات جنود مصر على أرض سيناء، وتمسكهم بالصُمود دفاعًا عن الأرض، في ظروف بالغة القسوة، إلى جانب البطولة في إيقاع خسائر بالعدو بأقل إمكانات مُتاحة، فضلًا عن دحر الروح الانهزامية التي كانت تسود مع فقدان الأمل في تحرير الأرض، فكان المصرع التراجيدي للعسكري "منير" مصدرُ الروح السلبية بين رفاقه في الممر.

على الجانب الآخر، يأتي فيلم "الممر" في لحظة فارقة من تاريخ الوطن، بعد تدعيم ركائز الدولة المصرية، واستعادة القدرة والتأثير في الدائرة الإقليمية والعالمية، وإحراز تقدم ملحوظ في الحرب ضد الإرهاب، حيثُ يقدم العمل السينمائي وجبة دسمة تستهدف الشباب خصيصًا، ليُدرك من هو عدونا، وكيف اعتادت مصر أن تنتفض رفضًا للهزيمة وإنكارًا لأسبابها حتى تحقيق النصر، وكيف أن المعركة مُستمرة ولن تنتهي، كما ورد على لسان القائد الإسرائيلي "ديفيد": "معركتنا حتى آخر العمر، إما إحنا أو هما"، ولعل الواقع يؤكد نجاح الفيلم حتى الآن بامتياز، حيث تمكن صُناعه من تحقيق المعادلة الصعبة، محتوى ممتاز، هدفٌ وطني، أداء محترف، فاستطاع جذب المُشاهدين، وإذا كانت أرقام الإيرادات قادرة على أن تعكس حجم الإقبال على المشاهدة، فحضورنا في قاعات العرض السينمائي كان كفيلًا لنشاهد رأي العين إقبال الشباب خصيصًا على مشاهدته والتعبير عن مردود الفيلم الإيجابي على الإدراك وزيادة الوعي عبر منشوراتهم على منصات التواصل الاجتماعي. 

وقد اتخذ فيلم "أغنية على الممر" من صحراء سيناء مسرحًا لأحداثه، لا تُغادرها الشخصيات سوى من خلال أسلوب الاستحضار الفني "الفلاش باك، حيث روى قصة احتجاز عساكر مصريين داخل إحدى الممرات الاستراتيجية في سيناء تمسكوا بالدفاع عنه وعدم الانسحاب، رغم انقطاع المؤن والإمدادات عنهم، وتعطل جهاز الاتصال اللاسلكي الخاص بهم، بينما يتذكر كل منهم أمانيه وآلامه، ونجاحاته وعثراته، ليُعبر عن مشاعر وإحباطات الجنود في هذه الفترة، حتى سقط منهم شُهداء إثر غارة جوية معادية، كما يضمُ "الممر" المحتجز فيه الجنود، شخصية العسكري "منير" مصدر الروح السلبية والانهزامية بين الجنود، المُتذمر من قلة المؤن، وصعوبة العيش، المُستسلم لشعور أنه لا طائل من وراء الصمود في هذا الممر، وأن العدو قادم لا محالة، إن لم يكن من خلال نيران الدبابات، فعبر دانات الطائرات، وفي لحظة يأس صارخة يُهرول خارج الممر ليقتنصه لغمٌ أرضي يرديه قتيلًا. 

أما فيلم "الممر" الذي بدأ عرضه الشهر الجاري، كان له منظورٌ أشمل، فمشاعرُ الهزيمة في عام 1967م لم تكن حكرًا على الضباط والجنود على الجبهة، بل ألقت بظلالها على كافة شرائح المجتمع داخل العمق المصري، حيثُ نجد زوجة الضابط " نور" التي تتألم لما آل إليه الحال مع زوجها العائد من معركة لم تبدأ، حتى قال لها : "لم أعد الرجل الذي أحببتي، أنا شخصٌ لا أعرفه"، ولكنها تسعى لأن تُداوي جرح زوجها النفسي من "كابوس" الهزيمة، بينما في المُقابل نصادفُ بين مشاهد الفيلم، موظف السنترال وعملاؤه من مختلف أطياف المجتمع، الذين يجدون في السخرية من الواقع، وسيلة للتخلص من شعور القهر واليأس، حتى وإن كانت هذه السخرية مُوجعة ومريرة ومؤلمة، وربما أيضًا العسكري "عامر" ابن النوبة، الذي قرر الهرب من استكمال أداء الخدمة العسكرية، نتيجة مشاعر متضاربة في داخله، بعضها يتعلق بالهزيمة غير المبررة وخوفه من الموت قلقًا على ابنه، وأخرى ترتبط بتاريخ أهل النوبة، قبل أن ينتصر حسه الوطن ويعود إلى صفوف الجيش.

الرؤية الفنية والدرامية في فيلم "الممر" كانت أكثر شمولًا في جوانب أخرى، حيثُ بدا العمل السينمائي الأضخم هذا العام، وكأنه مقطعٌ أفقيٌ لمصر، لنرى كافة وجوه الشخصية المصرية، ونتعرف على همومهم، فنقترب من حياة أهالي سيناء من خلال شخصيتي "أبو رجيبة" وشقيقته "فرحة" الذين كانت أراضيهم دومًا مسرحًا للعمليات الحربية، وقدم الكثير منهم العون بكل وطنية لقواتنا المسلحة، سواء في سنوات كفاح المحتل، أو أعوام قتال الإرهاب، كما تمسكوا دومًا بالعيش بها على النحو الذي عبر عنه "أبو رجيبة" في نهاية الفيلم، ثم مشاعر أهل النوبة التي نجدها في وجه الفتى الأسمر "عامر"، الذي يروي هُموم أهلنا في هذه البُقعة الغالية من أرضنا الطيبة، دون مواراة، وكذلك مطالب أبناء الصعيد التي تحدث عنها العسكري "هلال" الذي اندفع في مشهدٍ صادق ليُؤكد ضرورة اختصار "المصاروة" ـ على حد وصف بنت سيناء "فرحة" ـ للمسافات الشاسعة التي تفصلهم عن باقي ربوع الوطن، ليمكنوا من الاستماع إلى احتياجات أبناء مصر في كل بقعة على أرضها. 

لست أدري لماذا حرصت على ألا أتناول شخصية "إحسان" في فيلم "الممر" ضمن الوجوه المتعددة للشخصية المصرية السالفُ ذكرُها في السطور الماضية، بل فضلت أن أتناوله على وجه خاص، حيثُ شكلت التحولات التي شهدتها هذه الشخصية من "العبث" إلى "المسئولية" رسالة شديدة الأهمية لشباب هذه الوطن، في ضرورة التصرف بإيجابية، في التعلم، وشحذ المهارات، واكتساب الخبرات، والابتعاد عن مشاعر اليأس والقنوط مهما كانت الفترات عصيبة، فالظرف السياسي والاقتصادي دفع "إحسان" المصور الصحفي الشاب، إلى الضرب بقيم مهنته عرض الحائط، والبحث عن الشهرة والمال دون رادع أخلاقي، قبل أن يمر بنقطة تحول، تجعله يدرك أن عليه أن يقوم بشيء ذات قيمة، فيتجه لأن يكون محررًا عسكريًا، لتساهم هذه التجربة في تغيير جذري في رؤيته للأمور واحساسه بقضايا وطنه، ولعل دور "إحسان" يقتربُ كثيرًا من دور العسكري "حمدي" في فيلم "أغنية على الممر"، الذي يقوم بإعداد أغانٍ وألحان، ولا يجدُ المكان والجمهور المناسب لتقديم فنه، ثم يجد ذلك كله، أثناء حصاره ورفاقه في الممر، ليُنشد لحنه (من كلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي) : أبكي.. أنزف.. أموت.. وتعيشي ياضحكة مصر.. وتعيش يا نسيم العصر.. وتعيش يا قمر المغرب.. وتعيش ياشجر التوت.

وخطوة في خطوة نتقدم.. نعاند خوفنا وجروحنا..

نقع ونقوم ونتعلم.. ترد في جسمنا روحنا
( من فيلم "الممر" ـ كلمات: أمير طعيمة ـ وموسيقي وألحان: عمر خيرت)
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط