الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تذكرتي تعيد الكرة للجماهير


تعد منظومة " تذكرتي" ، أهم مكسب حققته مصر من وراء تنظيم بطولة الأمم الإفريقية ، لكونها أول منظومة انضباط جماعي تقدم للمصريين ، في وقت تفشت فيه الفوضى ، وعدم الانضباط ، في معظم مناحي الحياة في مصر . و الأهم هو أن المصريين، أو على الأقل مئات الآلاف الذين خضعوا لمنظومة تذكرتي على أرض الواقع في الاستادات الستة التي تحتضن البطولة الإفريقية، رقم 32 ، أدركوا للمرة الأولى أن الانضباط يصب في مصلحة المواطن ، بقدر ما يصب في مصلحة الوطن، خلافا للشعار السائد في مصر" الفوضى خير وسيلة للحصول على ما أستحق و ما لا أستحق " .

ومن خلال حضوري لمباراة مصر ، و جنوب إفريقيا ، في استاد القاهرة ، في إطار دور الستة عشر من البطولة الإفريقية ، أستطيع أن أجزم أنه لو طبقت مثل هذه المنظومة الانضباطية على الشارع المصري، ستصبح مصر خلال سنوات قليلة دولة في قامة ألمانيا ، أو اليابان ، أو الصين . فالمصري لا يقل ذكاء عن مواطني هذه الدول المتقدمة ، لكن المصري يهدر تميزه بعدم الالتزام والاعتياد على الفوضى و عدم الانضباط ، و الدليل أن المصري عندما يعمل خارج مصر يحقق نجاحات هائلة لأنه ينصهر في بوتقة المنظومة المنضبطة ، و يكون الفشل حليفه في وطنه عندما يستسهل الأمور ، ويفضل اتباع منظومة الفوضى.

ولن أتطرق حاليا لكيفية نجاح "تذكرتي" في تحويل مشجع الكرة إلى مشجع راق، متحضر ، يتواجد في المدرجات للاستمتاع بمباريات فريقه و ليس للترويج لأفكار سياسية ، أو لجماعات دينية، أو لارتكاب أعمال تخريبية ، لكني سأتطرق هنا لكيفية نجاح المنظومة في إعادة الخارجين عنها إلى حظيرتها . فقد كتب لي ، أن يتواجد مقعدي في مباراة مصر و جنوب إفريقيا ، وسط مجموعة من الشباب و العائلات ، و أثناء سير المباراة ، لاحظ الحضور أن اثنين من الشباب يحلو لهما استخدام ألفاظ بذيئة، و نابية ، بحق أي لاعب يخطئ التمرير، أو يهدر فرصة محققة، فحذرهما رب أسرة، يصطحب زوجته ، و ثلاثة أبناء بينهم بنتان، من مواصلة استخدام هذه الألفاظ الخارجة في حضور عائلات محترمة ، فبادر الشابان بتقديم الاعتذار . 

ومع توتر أجواء المباراة بسبب تراجع أداء منتخبنا القومي ، عاود الشابان ترديد الشتائم، و البذاءات ، للتعبير عن سخطهما من أداء المنتخب الوطني ، و هنا انتفض رب الأسرة من جديد محذرا الشابين قائلا لهما" لقد سجلت رقم مقعديكما، و سأقوم عقب نهاية المباراة بإبلاغ السلطات المختصة بالرقمين لخروجكما عن الآداب العامة.

وسرعان ما أتي هذا التهديد ثماره ، فعلى الرغم من تلقي شباك مصر هدف جنوب إفريقيا القاتل في الدقيقة الخامسة و الثمانين ، لم يصدر من الشابين سوى تعليقات عكست فقط سخطهما و غضبهما من الهدف الذي سكن مرمى مصر من دون الخروج عن الآداب العامة .

وهنا سيبادر البعض بالقول ، بأن نجاح منظومة تذكرتي، والتزام الجماهير ، وانضباطها ، في بطولة الأمم الإفريقية ، يعود إلى نوعية و وعي الجماهير التي حضرت المباريات ، فهي جماهير الصفوة ، و ليست جماهير الأندية ، المعروفة بتعصبها لا سيما تجاوزات بعض أعضاء روابط ألتراس الأندية الشعبية . و الإجابة هنا ، أن مباريات بطولة الأمم الإفريقية ، أعطت المثل في الانضباط للمصريين بصفة عامة، و أن الصفوة عندما تنضبط ، وتلتزم، فإنها تعطي المثل للجميع في ضرورة الخضوع لقوانين الانضباط و الالتزام . 

ويرى البعض الآخر، أن التزام الصفوة ، ما هو إلا نتاج سيف منظومة تذكرتي الحاد ، و ليس بسبب نوعية الجماهير وفقا للقول المأثور "من آمن العقوبة أساء الأدب" ، فكل من سيتواجد في المدرجات سواء من الصفوة أو من غيرها يدرك الآن أنه أصبح يخضع لمنظومة تذكرتي، فهو معروف الهوية من خلال بطاقة المشجع التي تحمل صورته ، و أن هذه البطاقة ستكون في حال خروجه عن النص ، جواز منعه من دخول المباريات مثلما هي جواز السماح له بدخولها.

ومن ناحية أخرى ، فقد أثبت الخروج المبكر لمصر ، من بطولة الأمم الإفريقية، أمام جنوب إفريقيا ، الأقل مستوى من مصر ، أن غياب الجماهير عن مباريات كرة القدم في البطولات المحلية المصرية كانت له نتائج سيئة أثمرت عن تراجع مستوى الكرة المصرية . فالجماهير هي عصب لعبة كرة القدم ، وهي التي تثير الحمية في قلوب اللاعبين و أبدانهم بهدير تشجيعها، و غياب هذه الجماهير عن المدرجات تسبب في حدوث تراخ في أداء اللاعبين المصريين . بل إن كثيرا من المراقبين يرجعون سبب ندرة ظهور النجوم الموهوبة في الكرة المصرية في الوقت الحالي إلى غياب الجماهير عن الملاعب لكونها المحفز الأول للاعبين . 

فمن غير المقبول في بلد وهبت لكرة القدم العالمية ، محمد صلاح، أحد أفضل ثلاثة لاعبين في العالم، ألا يولد على أرضها كل يوم العشرات من محمد صلاح .فهل يعقل أن مصر لم تنجب مهاجما على مستوى عال منذ اعتزال عماد متعب وعمرو زكي !. و هل يعقل أن يكون وليد سليمان، البالغ من العمر، 35 عاما، هو البديل لصانع الألعاب ،عبد الله السعيد ، الذي يقترب عمره من عمر وليد سليمان ! . فمن يوجهون الانتقادات لمدرب المنتخب المقال، خافيير أجيري، لاعتماده الرئيسي في التشكيل على المحترفين من منطلق أن بعضهم ظل حبيسا لدكة الاحتياطي في أنديتهم مثل ،محمد النني، في الأرسنال الإنجليزي ، و البعض الآخر يلعبون في دوريات تتساوى في قوتها مع مستوى الدوري المصري ، عليهم أولا توجيه الانتقادات للجماهير غير المنضبطة، التي تسببت في خلو المدرجات من المشجعين الذين يعتبرون الوقود الذي يبث الروح في أبدان اللاعبين و يساهمون بهديرهم في مولد نجوم جدد للكرة المصرية .

فكل تقدم لكرة القدم المصرية، و مولد مواهب أكثر في جميع المراكز ، تعني مزيدا من اللاعبين المصريين المحترفين في الخارج، وعدد أقل من الاعتماد على المحترفين الأجانب في الداخل . فكل محترف مصري في الخارج ، يعني زيادة دخل البلاد من العملة الصعبة ، و كل محترف أجنبي في مصر ، يعني خروج عملة صعبة من البلاد . فنجم مصر العالمي ، محمد صلاح، على سبيل المثال ، الذي تقدر ثروته الآن بأكثر من مليار جنيه، سيعود يوما ما لبلده مصر ، محملا بالجانب الأكبر من حصيلة الإسترليني التي حققها ، الأمر الذي يعني كسب مستثمر أجنبي لكنه مستثمر من أبناء مصر يحمل الجنسية المصرية .

فكرة القدم تعد من أهم القوى الناعمة لمصر ، خاصة على المستوى الإفريقي، العمق الإستراتيجي لمصر، فكثير من الأفارقة يعشقون مصر عشقا للاعبيها ونجومها ، خاصة نجوم الأهلي، و الزمالك، و المنتخب القومي الذي يحمل الرقم القياسي في الفوز ببطولة كأس الأمم الإفريقية مثلما يحمل الأهلي والزمالك الرقم القياسي في الفوز بالبطولات الإفريقية. كما أن كرة القدم أصبحت صناعة بالمليارات ، فهي تفتح بيوت العديد من المصريين، ليس فقط بيوت اللاعبين ،و المدربين، والصحفيين ، و الإعلاميين، لكن أيضا بيوت كل من يعمل في البنية التحتية لكرة القدم ، من صيانة المدرجات و ملاعب الكرة، و نقل المشجعين بوسائل المواصلات المختلفة ، والعاملين في حقل الإعلانات إلخ الخ . إذن فلعبة كرة القدم أصبحت منظومة اقتصادية مهمة ، و هذه المنظومة تصب في نهاية المطاف في مصلحة الإقتصاد القومي .و لذلك، فليس من حق 10 آلاف ، أو 20 ألفا، أو حتى 100 ألف من الخارجين عن القانون و الآداب العامة ، و المأجورين، و المرتزقة، و المشاغبين، و المتعصبين، أن يمنعوا 100 مليون مصري من الاستمتاع في المدرجات بفنون و نجوم كرة القدم ، اللعبة الشعبية الأولى في مصر والعالم.

ونهاية فمنظومة "تذكرتي" لن تكون فقط وسيلتنا لإعادة الجماهير المصرية للمدرجات، لكونها وقود شحن اللاعبين، وتحفيز المواهب على الظهور والتألق ، لكنها في ذات الوقت منظومة ترسي أولى دعائم الانضباط في المجتمع المصري، الذي لو انضبط لصعدت مصر لتحتل المكانة التي تستحقها بين الأمم المتقدمة .

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط