الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محاكمة طه حسين "1"


قلنا إن الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر تقدم ببلاغ للنائب العمومي يتهم فيه طه حسين بالطعن الصريح في القرآن الكريم ونسبته إلى الخرافة والكذب إليه والطعن في الرسول ونسبه الكريم في كتابه المنشور المعنون (في الشعر الجاهلي).

وفي تطور لافت لا يمكن لأحد في مصر أن يتجاهله -نظرا لقيمة الشخص والجهة التي صدر عنها هذا التطور- حيث أرسل شيخ الأزهر فى 5 يونيو من العام 1926 إلى النائب العمومي خطابا يتضمن تقرير رفعه عدد من علماء الأزهر إليه عن كتاب "في الشعر الجاهلي" يستهجنون فيه محتواه ويتهمونه بالتعدي على المقدسات.

هذا الصراع الثقافي الديني الذي شغل الرأي العام المصري في منتصف عشرينيات القرن الماضي، لم يكن هكذا يمر دون أن تتشابك معه السياسة التي دائما ما تغازل البسطاء من الناس بهدف كسب أصواتهم، وليس هناك أفضل من مثل هذا الحدث فيمكن لسياسي أن يستغله ليظهر أمام العوام وكأنه حامي حمى الدين، الدين الذي هو أقرب طريق لقلوب وعقول البسطاء، ومن هنا كان وسيلة للمتاجرة بأحلامهم، واللعب على أوتار مشاعرهم وحسهم وحبهم للدين، ففي 14 سبتمبر من نفس العام تقدم عضو مجلس النواب عبد الحميد البنان ببلاغ آخر ضد الكتاب الذي تحول لقضية رأى عام شغلت العامة والخاصة وأثارت عاصفة من الغضب ضد عميد الأدب العربي.

ولأن مصر الدولة العريقة لا بد لها أن تُعْمِل القانون، فكان لزاما على النائب العام التحقيق في الموضوع الذي خرج عن إطار السجالات الأدبية والعلمية التي كانت الساحة المصرية تموج بها في ذلك الوقت إلى اتهام بالنيل من المقدسات من أحد أهم الباحثين والمفكرين في ذلك الزمان بل وفي كل الأزمان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي كان أحد أبرز المتصارعين في حلبة الصراع الأدبي والفكري والسياسي والذي كانت اختياراته الجريئة وآراؤه الصادمة ومواقفه الحادة قد جعلت المصريين منه على فريقين: معجب به ومناصر له، ومخالف لما يطرح عدو له.

ولعله من المناسب أن نقف هنا على الأربعة إشكاليات التي طرحها الكتاب، ونرى مقدار خطورتها وعظيم أهميتها، لنعرف كم كانت النيابة المصرية -متمثلة في رئيس النيابة محمد نور- على كبير وعي بعظيم القضايا الفكرية، وكيف فرّقت بين البحث بأدواته العلمية، وبين القدح في المقدسات التي لا يستند إلى دليل، ولا ينبني على أسس.

لقد طرح الكتاب الإشكاليات التالية على خطورتها:

1- قول طه إن مجرد ذكر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في التوراة والقرآن لا يعد دليلا على وجودهما التاريخي فضلا عن قوله إن قصة هجرة إسماعيل إلى مكة ونشأة العرب المستعربة أشبه بالحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من الحقيقة التاريخية.

2- أن القراءات السبع للقران كانت قراءات العرب بألسنتهم وليست وحيًا.

3- في إطار نظريته حول تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهلين والتي نفي على أساسها نسبة معظم ما نعرفه من الشعر الجاهلي لأصحابه وادعي أنه قُرِضَ في عصور إسلامية لاحقة تعرّض لنسب النبي صلي الله عليه وسلم بالتشكيك حيث يقول: (فلأمر ما اقتنع الناس أن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بني عبد مناف صفوة قصي وقصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها).

4- أن المسلمين أرادوا إثبات أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحي إلى الأنبياء من قبل، فنسبوا شعرهم المحمّل بالقيم الإسلامية إلي الجاهليين وادعوا نسبتهم إلى إبراهيم عليه السلام أصلا وديانة.

لعلك بعد اطلاعك -أيها القارئ الكريم- على هذه الإشكاليات والجرأة الرهيبة التي تخلّق بها الدكتور طه حسين في الطرح، توافقنا الرأي أن الضجة الهائلة كانت مستحقة فلقد ألقى عميد الأدب العربي بنشره هذا الكتاب -الذي نراه كان بمثابة إعلان حرب- بظلال من الشك حول كل التراث الإسلامي.

ولنقرأ سويا كيف طويت صفحات هذه القضية من خلال هذا النص الذي ضمنه رئيس النيابة محمد نور بعد بحثه للقضية برمتها، ذلك البحث الذي عكس سعة اطلاع، كما أظهر تنوع الثقافة، وأوضح نأي النيابة بنفسها عن عوامل التأثر بالرأي العام فكتب:
(وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها).

وبعد هذا الحكم من النيابة العامة أوقف البرلمان مناقشة القضية بعدما أرتأت الأغلبية أن المسألة علمية وليست سياسية، وهنا تصدى لعميد الأدب العربي الكبار من المفكرين ودارسي الأدب العربي ومشايخ الدين، وتوالت الردود على طه فألفت العديد من الكتب، دحض بعضها بعضا من الأفكار التي جاءت في كتاب عميد الأدب العربي، وقصرت- في رأينا - الغالبية منها فيما أرادت رده على قائله.

وعلى الرغم من أنه لم يصدر حكما من أية محكمة بردة الدكتور طه حسين وكفره، إلا أن ذلك قد ترسخ في نفوس الكثيرين، نتيجة للتناول الذي فارق ما خطَّه رئيس النيابة "محمد نور" بيده، وهو ما سنجد صداه في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين حينما قامت مجموعة بمحاولة اغتيال طه حسين.

يتبع..
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط