الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نحن وهم.. ما بين الطاعون الأسود وكورونا


أسعى دائما للوصول لاستخدام ضمير المتكلم "نحن" فقط، ولكني أجد نفسي مشدودا جبرا لدوائر انتماءات: بدءا من العزبة الصغيرة التي ولدت بها "عزبة موسى" انتقالا لانتماء أوسع قليلا "ليسا الجمالية" وصولا للمدينة والمركز الذي أنتمي إليه مدينة الجمالية، لانتماء أرحب قليلا هو محافظة الدقهلية، لتختتم هذه الدائرة الوطنية بأروع ختام وهو الانتماء لمصر الوطن الشامخ.

وفي دائرة أخرى أجدني أنتمي للوطن العربي، وللقارة الأفريقية.

وعلى صعيد الانتماء العقائدي أجدني مشدودا للإسلام كعقيدة، وللسنة كمذهب، وعلى صعيد الثقافة فانتمائي الأول للثقافة المصرية والعربية، كل هذه الدوائر التي أدور في فلكها، ويجذبني إليها مركز الدائرة كما تجذب الشمس الكواكب والنجوم حولها، تجعلني في مواجهة دوائر أخرى، تدفعني للتواجد في مجال التمايز مرة، والدفاع المستميت مرة أخرى، ومجال المقارنة التي تلح على الذهن إلحاحا مرة ثالثة.

وأنا على هذه الحال من الاستغراق في دوائر الانتماء المتعددة المتنوعة المختلفة، يبرق لي في الأفق الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي مرددا:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلبي قابلًا كلَ صُورةٍ .. فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ .. وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن

أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ .. ركائبهُ ، فالحبُّ ديني وإيمَاني.

وأدركت أن تلك الحالة التي أنشدها، لا يصل إليها إلا هؤلاء المتفانون، والذين خاضوا طريقا وعرة، أنكرها عليهم غير العارفين، وهم الغالبية الساحقة، والتي ما زلت أنتمي إليها، ولا أعلم إن كنت سأغادرها أم لا، وأنّى لي ذلك؟، وأنا ما زلت في مرحلة إحياء العقل، الذي هو خطوة أولى صغيرة، في مشوار الألف ميل.

إحياء العقل الذي عمل على تغييبه العديد من العوامل، كانت الخرافة هي المستند عليها والعامل المشترك في كل العوامل، تلك الخرافة التي يتم إلباسها لباس التقديس، حتى لا يناقشها العقل، لأنه لو فعل لاستيقظ من غفلته، هذا الذي يمثل ضررا بالغا لهؤلاء الذين تربح تجارتهم وتربو في فَيْءِ العقول المسلوبة، وتبور تلك التجارة في بيئة من العقل تُعْلِي، وبالعقل تميز، وللعقل تحتكم.

إحياء العقل الذي عملت عليه أممٌ غيرنا، فاستمتعت في ظله بحياة راقية، وأنتجت بفضله نتائج مذهله، وقطفت من أثر ينبوعه ثمرات ناضجة دانية لذيذة حلوة للآكلين، وكانت من قبل تعيش بالجهل وفي الجهل فكان حالها من البؤس بمكان عظيم.

فلننظر لهذه الأمم التي أحيت العقل، وهي الأمم الأوروبية، قبل أن تغادر الخرافة المقدسة، في معالجتها لوباء الطاعون الأسود (أو الموت العظيم أو الموت الأسود)، وهو وباء الطاعون الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة. انتشرت أوبئة مشابهة في نفس الوقت في آسيا والشرق الأدنى، مما يوحي بأن هذا الوباء الأوروبي كان جزءًا من وباء عالمي أوسع نطاقا.

فلقد اعتبرت هذه الأمم، ونحن معهم كذلك، حيث أصابنا كما أصابهم، هذا الوباء، في ذلك العصر، أنه عقاب إلهي، وغضب من الله، وهو عقوبة إلهيّة بسبب كثرة الخطايا، ومن هنا تم اللجوء للصلوات الجماعية والتضرع الجماعي في كل من أوروبا ومصر كذلك، فوفقا لجوزيف بايرن الأستاذ المشارك للتاريخ الأوروبي في جامعة بلمونت، ناشفيل، ولاية تنيسي. صاحب موسوعة الموت الأسود فالنساء واجهن الاضطهاد أثناء الموت الأسود فعندما ضرب الطاعون القاهرة أصبحت النساء المسلمات أكباش فداء.

وكتب بيرن: في 1348 أن شيوخ سلطان القاهرة أذاعوا أن قدوم الطاعون إنما هو عقابٌ من الله بسبب الزنا، وأنه تم وضع قانون ينص على عدم السماح بظهور المرأة على الملأ لأنهن قد يغرين الرجال ليرتكبوا الزنا. وأن هذا القانون ألغي عندما "اشتكى الأثرياء من عدم قدرة خادماتهم على تسوق الطعام".

ويذكر ابن حجر العسقلاني أنه في زماننا حين وقع الطاعون بالقاهرة في 833ه‍، فكان عدد من يموت بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء -كما في الاستسقاء- فما انسلخ الشهر حتى صار عدد من يموت في كل يوم بالقاهرة فوق الألف ثم تزايد".

إذًا لم تأت الصلوات الجماعية، بالنتيجة التي كان ينتظرها هؤلاء الذين خرجوا للصلاة، أملا في أن يرفع الله عنهم غضبه، ويوقف العقاب الذي أوقعه عليهم، بل جاءت النتيجة عكس ذلك تماما، حيث زادت نسبة الوفاة مضاعفة بالعشرات، وذلك لأن هؤلاء لم يأخذوا بالأسباب، ولم يلجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بالشكل الذي يريد، وهو الصلاة منفردة، بالإضافة لأخذ الحيطة والحذر المطلوبين، والاحترازات المناسبة.

في ذلك العصر كان ما يحدث في القاهرة هو نفسه ما يحدث في العواصم والمدن الأوروبية، مع هذا الوباء، الذي فتك بثلث عدد سكان القارة الأوروبية وبأعداد هائلة من أبناء الشعب المصري.

وفي عصرنا الحالي، الذي يشهد جائحة ڤيروس كورونا، مازال ما يحدث في القاهرة ومصر بصفة عامة بل والمنطقة العربية، هو ما كان يحدث في زمن وباء الطاعون الأسود، ولكن على الشاطئ الآخر من المتوسط، كان هناك سلوك آخر، حيث لزمت الشعوب الأوروبية تلك التعليمات التي صدرت عن الحكومات، التي صدرت نفسها عن الحكومة المصرية والحكومات العربية، والتي نجد صعوبة هائلة في تقبل جموع الشعب المصري لها، فنجد حربا ضروسا من قبل بعض فئات الشعب في محاولة مستميتة لإفشال ما تنخذه الحكومة من إجراءات، وما يتم إصداره من تعليمات، في حالة تعكس من ناحية، ما تواجهه مصر من عدو داخلي، ومن ناحية أخرى ما يسيطر على العقل المصري والعربي من قناعات تُلْبَس ثوب القداسة، لم يقل بها أي من العلماء الثقات، من مثل شيخ الأزهر أو دار الإفتاء المصرية، أو هيئة كبار علماء المسلمين، الذين سبقوا الجميع في مطالبة أبناء الشعب المصري بضرورة التزام ما يصدر عن الجهات المعنية من تعليمات.

ذلك الذي عكس تطورا كبيرا في المؤسسات الرسمية، ذلك التطور الذي لم يواكبه تطورا على نفس الدرجة في الشارع المصري، ولم يرتق إليه العقل الجمعي، كما هو الشأن في العقل الجمعي الأوروبي والغربي عموما.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط

-