الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الإسلام في فرنسا بين اليمين المتطرف والإرهاب


يواجه الإسلام والمسلمون في فرنسا، في الوقت الحالي ، وضعا عصيبا، بوقوعهما بين مطرقة اليمين المتطرف ، وسندان التطرف الإسلامي، لا سيما بعد تعرضهما لحملة سياسية وإعلامية شرسة، إثر قيام شاب مسلم روسي يدعى، عبد الحق أنزوروف، 18 سنة (من أصل شيشاني) بذبح صامويل باتي، مدرس التاريخ بإحدى مدارس باريس، انتقاما منه لقيامه بعرض رسوم كاريكاتورية، كانت قد نشرت في صحيفة فرنسية، تسخر من رسول الله ، صلي الله عليه وسلم وتتهمه بالإرهاب.

 

 فقبل عام ونصف من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لم يجد الرئيس الفرنسي اليميني الوسطي، إيمانويل ماكرون ، لرفع شعبيته لدى الفرنسيين الأصليين، أفضل من انتهاج خطاب سياسي ، يقترب في لهجته المتشددة، من لهجة زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف، مارين لوبن، وذلك تعقيبا على مقتل المدرس الفرنسي، رغم أن حزبه " الجمهورية إلى الأمام " هوحزب ليبرالي ينتمي لليمين المعتدل وليس لليمين المتطرف. يرجع تشدد خطاب الرئيس ماكرون بكل تأكيد، إثر المخاوف المتزايدة من جانب الفرنسيين الأصليين، من ارتفاع أعداد المتشددين الإسلاميين بين المسلمين الذين يعيشون في الضواحي الفرنسية الفقيرة، والتي تحولت بمرور الوقت، إلى جيتوهات منعزلة عن المجتمع الفرنسي، تتشابه مع الجيتوهات التي كان يعيش فيها اليهود في أوروبا في السابق قبل اندماجهم في المجتمعات الأوروبية. 

 

 وتعكس تصريحات الرئيس ماكرون الأخيرة بشأن ذبح المدرس الفرنسي، مدى مخاوف الفرنسيين الأصليين من الإسلام على وجه العموم وليس فقط من المتطرفين ، لدرجة أن الرئيس ماكرون وصف الإسلام بأنه يعيش في أزمة في كل مكان في العالم، وأعرب عن عزمه على معالجة الانعزالية الإسلامية عن المجتمع الفرنسي وعلى حماية العلمانية الفرنسية التي تمنع تدخل الدين في السياسة

 

 واتهم الرئيس ماكرون، الإسلام الراديكالي المتشدد في فرنسا، بأنه يعمل على إقامة نظام مواز لنظام الجمهورية الفرنسية "العلماني" الذي فصل تماما سلطة الكنيسة عن الدولة منذ العام 1905، بعد أن كانت الكنيسة تتمتع بنفوذ قوي على صناعة القرار في فرنسا. وأعترف ماكرون مع ذلك بمسئولية الحكومات الفرنسية المتعاقبة في انعزال المسلمين في أحياء منفصلة بعيدا عن الفرنسيين الأصليين، مؤكدا بأن فرنسا لم تبذل الجهود اللازمة لإدماج المسلمين، اقتصاديا، واجتماعيا، في المجتمع الفرنسي. 

 

ويظهر بوضوح من تصريحات الرئيس ماكرون أنه يحمل كل المسلمين في فرنسا، أخطأ وجرائم قلة من المتطرفين الإسلاميين، متناسيا الخدمات الجليلة التي قدمها المسلمون لفرنسا، سواء فيما يتعلق بإدارة عجلة الإنتاج في المصانع الفرنسية،خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية، أومن خلال مشاركة المسلمين في الحروب التي خاضتها فرنسا سواء على أراضيها أوخارج أراضيها. 

 

 

 

 ولكن قبل أن نحكم من الظالم ومن المظلوم، هل هم الفرنسيون الأصليون، أم المسلمون، ينبغي أولا تعريف القارئ ببداية وصول المهاجرين المسلمين إلى فرنسا في العصر الحديث، فضلا عن الكشف عن سبب تعرض فرنسا للإرهاب والتطرف الديني منذ بداية ثمانينات القرن الماضي

 

 يقول التاريخ، أن فرنسا فتحت ذراعيها لهجرة المسلمين إلى أراضيها في بداية القرن الماضي من أجل معالجة الفجوة الصناعية التي بدأت تتسع بينها وبين بريطانيا، حيث لم تجد الحكومات الفرنسية أفضل من اللجوء لاستقطاب الأيدي العاملة المسلمة الرخيصة للعمل في المصانع والمزارع من مواطني المستعمرات الفرنسية، خاصة من الجزائر التي كان الفرنسيون يعتبرونها جزء من الأراضي الفرنسية قبل حصول الجزائر على الاستقلال.ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى(1914-1918) ازدادت معدلات هجرة المسلمين إلى فرنسا، من الجزائر، ودول المغرب العربي الأخرى، للمساهمة في إدارة عجلة الإنتاج في المصانع الفرنسية، لا سيما في مصانع السلاح، بعد أن اضطر الفرنسيون الأصليون للذهاب للحرب على جبهات القتال لمواجهة الجيش الألماني الغازي . ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية (1945-1939) وظهور مطامع الزعيم النازي، أدولف هتلر، في السيطرة على أوروبا، استقبلت فرنسا الموجة الثالثة من المهاجرين من دول شمال إفريقيا تونس،والمغرب، والجزائر، إضافة إلى مهاجرين من دول إفريقيا السمراء الإسلامية خاصة من السنغال، ومالي، والنيجر، وغينيا. 

 

وشهدت الأراضي الفرنسية الموجة الرابعة من الهجرة من الدول الإسلامية في الفترة من 1955 إلى 1975 التي سجلت رواجا اقتصاديا وصناعيا كبيرا في فرنسا. ولا يعني ذلك أن هجرة المسلمين إلى فرنسا اقتصرت فقط على العمال غير المتعلمين، ولكن شملت الهجرات أيضا قدوم مثقفين، وأساتذة، وأطباء، ومهندسين، ليصبح الإسلام الديانة الثانية في فرنسا بعد المسيحية من حيث العدد وقبل اليهودية.ووفقا لتقديرات غير رسمية فإن عدد المسلمين في فرنسا اقترب من 6 ملايين نسمة، من أجمالي تعداد الشعب الفرنسي البالغ تعداده 66 مليون نسمة، فيما تقدر مصادر إسلامية أعداد المسلمين في فرنسا بما فيهم الذين يحملون الجنسية الفرنسية، والذين يحملون صفة مقيم، بما يتراوح بين 15 إلى 20 مليون نسمة.

 

وينبغي هنا أولا، وقبل التطرق للأسباب التي جعلت الإرهاب يضرب فرنسا، الكشف عن سبب ما وصفه الرئيس ماكرون "بانعزال المسلمين في الضواحي الفرنسية "،وعدم اندماجهم في المجتمع الفرنسي، لدرجة أن من يزور هذه الأحياء يعتقد أنه في حي بولاق الدكرور الشعبي في القاهرة، أوفي حي القصبة الشعبي في الجزائر، أوحي بورنازيل في المغرب، أوحي سانداجا في السنغال. 

 

 فمع هجرة العمال المسلمين لفرنسا، ومعظمهم كانوا من الأميين وغير المتعلمين، ومع ارتفاع أسعار الشقق في باريس، وفي الأحياء التي يسكنها الفرنسيون الأصليون، اتجه المهاجرون المسلمون إلى الأحياء الواقعة على أطراف المدن الفرنسية الكبرى حيث تقل أسعار إيجار الشقق بنسبة 80 في المائة، بالمقارنة بإيجار الشقق في الأحياء الفرنسية.وبمرور الوقت تحولت هذه الأحياء إلى جيتوهات منعزلة، لا يدخلها الفرنسيون الأصليون، لتتحول هذه الأحياء إلى صورة طبق الأصل من الأحياء التي جاء المسلمون منها، بما فيها العادات، والتقاليد، والخطب الدينية المتشددة في المساجد، أوفي الزوايا التي أصبحت تقام في بير سلم بعض المنازل، والتي استغلها مشايخ قادمون من دول إسلامية، لا يعرفون اللغة الفرنسية، للتبشير بإسلام متطرف، متشدد، مستغلين في نفس الوقت، تدهور الأوضاع المعيشية، والصحية، والتعليمية، في هذه الأحياء، بالقياس بالأحياء التي يسكنها الفرنسيون الأصليون. 

 

 لكن هل يعني اعتراف الرئيس ماكرون بمسئولية الحكومات الفرنسية في الانعزالية التي يعيشها المسلمون في الضواحي، وتعهده بترسيخ قيم الجمهورية الفرنسية" العلمانية " في المدارس، والحياة العامة ، أنه سيعمل على أن يصاحب تحقيق ذلك الارتقاء بالحياة المعيشية لسكان الضواحي المسلمين الذين يعيشون في ظروف معيشية متدهورة تصل إلى حد الفقر، أم أنه سيكتفي لتحقيق ذلك بتوسيع نطاق منع ارتداء الحجاب، ليشمل القطاع الخاص، بعد أن أقتصر منعه على القطاع الحكومي، فضلا عن إبعاد المتهمين بالترويج لإسلام متطرف عن الأراضي الفرنسية ؟.تساؤل مهم ننتظر الإجابة عليه. 

 

 أما فيما يتعلق بالإرهاب فينبغي هنا الاعتراف بأن فرنسا كانت ضحية الإرهاب، فكل موجات الإرهاب التي ضربت فرنسا هبت عليها من الخارج ، سواء بسبب القضية الفلسطينية، أوتداعيات الحرب الأهلية في لبنان، أوبسبب وصول المتأسلمين للسلطة في الجزائر، وأخيرا بسبب تأثير الجماعات الإرهابية على المسلمين الفرنسيين، مثل جماعة الإخوان المسلمين، والقاعدة، وداعش وغيرهم . وفي واقع الأمر فقد شهدت فرنسا ثلاث موجات من الإرهاب جميعها انتقلت إلى فرنسا من دول الشرق الأوسط. بدأت الموجة الأولى في بداية 1980 بانتقال تداعيات القضية الفلسطينية والحرب الأهلية في لبنان إلى الأراضي الفرنسية، واستهدفت هذه الموجة في أغلب الأحيان الجالية اليهودية ، حيث شهدت باريس عمليات إرهابية قام بها الإرهابي كارلوس والفلسطيني أبونضال.وكانت البداية، في 3 أكتوبر 1980، حيث استهدفت أول عملية معبد يهودي بشارع كوبرنيك، بباريس، وذلك خلال اداء الصلاة مما ادى الى مقتل 4 اشخاص، وسقوط 20 جريحا. 

 

وتعرضت فرنسا في عامي 1995 و1996 ، لأشرس موجة من العمليات الإرهابية، قامت بها عناصر "الجماعة الاسلامية المسلحة "، التي كانت تمثل الذراع العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي كانت تحكم الجزائر في ذلك الوقت. وتجسدت هذه الهجمات على وجه الخصوص في استهداف شبكة متروباريس، مما أدى إلى مقتل 16 شخصا، وإصابة 250 أخرين بجروح. 

 

ثم جاءت موجة الإرهاب التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 وجميعها إستقت دمويتها من ثقافة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة، وداعش. وتجسدت هذه الثقافة، في آخر عملية تعرضت لها فرنسا، بقيام الشاب الروسي بذبح مدرس التاريخ الفرنسي. وترجع خطورة هذه العملية إلى أن القاتل جاء من مدينة تبعد 100 كيلومتر من مكان المدرسة. ولم ينفذ عملية الذبح بساطور، إلا بعد أن حدد له بعض طلبة المدرسة شخصية المدرس صامويل باتي، تنفيذا لفتوى بالقتل أطلقها داعية سلفي يدعى، عبد الحكيم سيفراوي.ولذلك فالرأي العام الفرنسي أصبح يقول أن فرنسا بعد ذبح المدرس، لن تكون مثل فرنسا قبل ذبح المدرس. 

 

 ويبقى السؤال المهم، من المسئول عما يحدث الآن في فرنسا هل هم الفرنسيون الأصليون الذين تركوا المسلمين ينعزلون في جيتوهات فقيرة وسمحوا لحرية الرأي والتعبير بإهانة رسول الإسلام بزعم أنه سبب الإرهاب ، أم أن المسئولية يتحملها المسلمون الذين رفضوا الاندماج في المجتمع الفرنسي وتركوا أنفسهم فريسة مجموعات متطرفة أفسدت كل ما قدمه المسلمون لفرنسا من مساهمات على المستويات الصناعية، والاقتصادية، والقتالية، منذ أن وطأت أقدامهم الأراضي الفرنسية ؟. 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط