الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

من «إبن رشد» إلى «ديكارت» إلى «كانط»

في حواره القصير الهام والخطير مع الإعلامية عزة مصطفى والكاتب عبد الرحيم كمال في برنامج "صالة التحرير" الذي يعرض بقناة صدى البلد، كشف السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مدى متابعة سيادته الدقيقة للشأن الثقافي والفكري والأدبي والفني في مصر، ففي الوقت الذي ظن فيه الغالبية الساحقة من أبناء الشعب المصري واعتقدَ فيه جل المفكرين والكتاب والمثقفين أن الدولة المصرية تُرْجئ الاهتمام بقضايا الوعي والفكر والثقافة والأدب إلى أن تنتهي من معضلات جسام ورثها حكم الرئيس السيسي من حقب سابقة، فإذا بالسيد الرئيس مُطمْئناً يكشف عن اهتمام كبير بالوعي والثقافة والأدب والفن، ولن أتوقف عند كل حوار السيد الرئيس الذي استغرق ما يقترب من ربع ساعة، والذي تناول فيه العديد من القضايا، ولكنني سأتوقف عند كلماته عن الوعي والتي تتمثل في إخضاع كل شيء إلى العقل النقدي، نعم لم يذكر السيد الرئيس كلمة كل شيء، ولكننا ببساطة نستطيع أن نستشفها، فإن كان الرئيس يتساءل: والسؤال هو أول خطوة من خطوات العقل النقدي، وكما هو معلوم فإن المهمة الأولى للفيلسوف هي طرح الأسئلة، أقول لقد تساءل السيد الرئيس وحفّز الجميع ليتساءلوا في قضية هي الأخطر لدى كل إنسان في العالم وعلى مر التاريخ، وهي قضية العقيدة الموروثة، هذا الذي يعني أن ما دون هذه القضية يجب ألا يَسْلَم من ضربات العقل الناقد المحلل.
وأكثر من ذلك فإن السيد الرئيس ألقى صخرة في المياه الراكدة الآسنة وهي أن هناك ضرورة لكي (نُعيد صياغة فهمنا للمُعتقد)، وذلك الذي لن يتأتى إلا من خلال التفكير، وذلك حينما عاد السيد الرئيس وتساءل: طب (فكَّرنا)؟!، ثم في أقل من طرف عين يصدم كسالى التفكير والخائفين منه: ولا خايِف تفكّر؟!
لقد أشار السيد الرئيس إلى دور المصلحين عبر التاريخ وكأني بسيادته يحفز ويشجع مفكرينا ومثقفينا بأن عليهم أن يخوضوا الطريق الوعرة التي اقتحمها قبلهم مفكرو الدول التي أصبحت الآن تحكم العالم، هؤلاء المفكرون الذين لاقوا ما لاقوا، وهذا الذي ينتظر أي مفكر يسعى للتغيير بهدم أفكار بالية وقناعات زائفة لأنه، كما أكد السيد الرئيس، يسير عكس التيار، ويبشّر بغير السائد، هذا الذي يحميه سدنة الموروث وحماة الأساطير. فلننصت لتلك الكلمات التي خرجت بين شفتي الرئيس السيسي:
" الوعي الديني قضية مهمة جدًا، كُلنا بنتولد في مصر مسلم أو (غير مُسلم) على البطاقة، بناخد الدين
بـ (الوراثة)، لكن هل أبدًا حد يعرف إن المفروض إن إحنا (نُعيد صياغة فهمنا للمُعتقد) إللي إحنا ماشيين عليه!؟
طب كُنا صغيرين مش عارفين، طب كبرنا، طب (فكرنا)؟!
ولا خايف تفكر؟!
هل فكّرت (المُعتقد اللي انت ماشي عليه صح ولا غلط)؟!
هل عندك استعداد تمشي في مسيرة (البحث عن الحقيقة)؟!".
إن المصلحين كما قال السيد الرئيس قد عانوا معاناة قاسية، فوجدنا منهم من قُتِل ووجدنا منهم من حُرِق، ورأينا منهم من سُجِن، ومنهم من شُرِّد، ولكن في نهاية المطاف فإن أفكارهم كانت لها أجنحة، كما يقول فيلسوفنا العربي الكبير ابن رشد، وهو أبو الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحُمِّد بن مُحَمَّد بن أَحُمِّد بن أَحُمِّد بن رُشْد (520 هـ- 595 هـ) يسميه الأوروبيون Averroes واشتهر باسم ابن رُشْد الحفيد (مواليد 14 إبريل 1126م، قرطبة - توفي 10 ديسمبر 1198م، مراكش) وهو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضي وفلكي وفيزيائي عربي مسلم أندلسي والذي ذكر في كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال: وإذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإننا معشر المسلمين نعرف على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني - الدليل العقلي - إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
لقد انطلقت  أفكار المصلحين مغيّرة شكل العالم، ليصل إلى ما وصل إليه، ذلك الذي لم يكن ليحدث إلا بفضل هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الذين أعلوا من قيمة العقل وجعلوه الحاكم الأول والأخير في كل الأمور، ذلك الذي نقل الإنسان من مرحلة التفكير الأسطوري إلى مرحلة النقد العقلي والتحليل العلمي، والذي كان الإرهاص الأهم فيه على يد الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت  (بالفرنسية: René Descartes)‏ (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650)، فيلسوف، وعالم رياضي وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ"أبو الفلسفة الحديثة" والذي ترتبط فلسفته بأمرين مهمين: الأول هو الشك المنهجي، والثاني هو الكوجيتو الذي يعد الحقيقة الأولى في فلسفته وهو: أنا أفكر، إذاً أنا موجود.
لقد أعاد ديكارت للعقل اعتباره باعتباره مصدر المعرفة الوحيد وهو صاحب الحق في قبول أو رفض أية فكرة تعرض عليه.
والشك عند ديكارت ليس المقصود منه الشك لمجرد الشك، كما قد يتبادر للذهن، بل إن الشك يكون من أجل الوصول إلى الحقيقة، حيث أكد ديكارت أنه لن يقبل شيئا على أنه حق أو حقيقة ما لم يحضر في الذهن بوضوح تام ومطلق.

وأول ما أخضعه ديكارت للشك كان الماضي بكل ما فيه من معارف وآراء ترسخت في العقل بحكم الوراثة والتربية والتقليد والعادة هذه المعارف والآراء التي يتم تصديقها ليس لكونها واضحة في ذاتها أو مبرهن عليها بل لأنها تلقى على الإنسان منذ الصغر في مرحلة الطفولة تلك المرحلة التي يكون فيها الإنسان بكل بساطة عاجزا ألا يصدق لافتقاره للعقل النقدي وعدم امتلاكه للقدرة الذهنية على التحليل أو التعليل أو الشك أو معرفة الصواب من الخطأ، ذلك الذي نلمحه في إشارة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي حينما ذكر: كُلنا بنتولد في مصر مسلم أو (غير مُسلم) على البطاقة، بناخد الدين بـ (الوراثة).

ولقد افتتح رينيه ديكارت "مقالة في المنهج" بجملة هي  الأساس الذي يقيم عليه بناءه الفلسفي وهي: إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وأنه أحسن الأشياء توزيعا بين الناس، وهذا يعكس إيمانه بأن كل الناس تملك نفس العقل، فليس هناك شخص أوتيَ من العقل أكثر مما أوتي غيره من الناس، ولكن الفرق بين الناس هو في طريقة استخدام هذا العقل.
وهنا يبرز سؤال هام: طالما أن الجميع يملك نفس العقل ونفس الطاقة والقدرات والإدراكات العقلية، لماذا نشهد كل هذا التباين؟
وهنا يجيب الفيلسوف الفرنسي:  إن اختلاف الأفكار لا يأتي من أن البعض أعقل من البعض، ولكن لأننا ننهج في تفكيرنا مناهج مختلفة، إذ ليس من الكافي أن يكون لنا عقل جيد بل إن الأهم هو أن نستعمله استعمالا جيدا.

كانت هذه هي بداية الطريق الذي خاضه الفلاسفة والمفكرون الغربيون من أجل إخضاع كل شيء إلى العقل، ومن أجل إخراج هذا العملاق "العقل" من القمقم الذي كان قد تم حبسه فيه، ومن لحظتها لم يقبل أية فكرة أو أي رأي دون أن يخضعه للبحث والفحص والتمحيص، هذا الذي كان نتيجته الحتمية تغيير البنية الفكرية بل والعقائدية للتناسب مع ما أنتجه العقل من فكر ورأي ورؤية لم يزعم أنها النهاية، بل كلما خطى خطوة فتحت أمامه آفاقا جديدة، هذا الذي لم يكن من السهولة بمكان، حيث دائما هناك ما يحرص كل الحرص على بقاء المنظومة الفكرية القديمة، رافضا كل جديد خائفا من كل حديث مرعوبا من استعمال الناس لعقولهم خوفا من تمردهم على تلك المنظومات البالية، وعلى العكس من ذلك فإننا نجد المصلحين، يتصدون بشجاعة مدافعين عن العقل مشجعين الناس على استخدامه دونما خوف ودونما كسل للوصول إلى نور المعرفة المبنية على أسس عقلية متينة، ولعل أكثر من دافعوا عن العقل، وكان يرى نفس رأي ديكارت في أنه آلة واحدة عند جميع البشر آخر فلاسفة عصر التنوير في أوروبا.
في خضم المعارك الفكرية التي دارت بين فلاسفة التنوير والكنيسة سأل قس بروتستانتي مغمور هو القس يوهان فريدريش تسولنر (1753 – 1804)، وقد كان ضاق ذرعا باستعمال لفظة التنوير والتي كانت على ألسن الفلاسفة وألسن الكثير من مثقفي الشعوب الأوروبية التواقة لهذا التنوير، سأل هذا الكاهن: ما معنى التنوير؟.
هذا السؤال الذي تصدى للإجابة عليه في مقال في صحيفة برلين الفذ إيمانويل كانط (بالألمانية: Immanuel Kant) هو فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر (1724 - 1804). عاش حياته كلها في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا. كان آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة. وأحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية. كان إيمانويل كانط آخر فلاسفة عصر التنوير الذي بدأ بالمفكرين البريطانيين جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم.

حيث كتب كانط في عدد ديسمبر ١٧٨٤ في مجلة برلين إجابة عن السؤال الذي طرحه هذا القس البروتستانتي: ما هو التنوير؟ فعرفه كانط قائلا: التنوير هو خروج الإنسان من حالة العجز الذاتي، خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو في عجزه عن استخدام عقله وفهمه الخاص إلا بتوجيه من إنسان آخر، ويقع الذنب، كما يرى كانط، في هذا القصور على الإنسان نفسه حيث أن السبب فيه ليس عجزا في العقل أو افتقارا فيه، بل الافتقار إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر، فيخاطب الإنسان: ليكن لديك الجرأة على استخدام عقلك.
ويرى كانط أن الجبن من ناحية والكسل من ناحية أخرى هما السبب وراء اختيار جزء كبير من الناس في أن يبقوا قاصرين على الرغم من أن الطبيعة قد حررتهم من كل وصاية عليهم، والجبن والكسل هم أيضا سبب قيام الآخرين بتنصيب أنفسهم وصاة عليهم، وهؤلاء الكسالى والجبناء يرون في الوصاية عليهم راحة، هذا الذي يذكرنا بمبحث للصديق الأستاذ الدكتور حسن حماد أستاذ الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال والعميد الأسبق لكلية آداب الزقازيق وأستاذ كرسي الفلسفة لليونسكو فرع الزقازيق عن العبودية والذي أكد فيه أن هناك من يختارها طوعا لأنها وإن كانت تكلفه عناء العمل وقسوته فإنها ترفع عن كاهله التفكير والاختيار اللذين فيهما جهد أكبر كثيرا من جهد العمل ذاته.
إذاً نجد هنا وجه شبه بين هؤلاء الكسالى الجبناء في تحرير عقولهم، ورضاهم بدور التابع لهؤلاء الذين يتسلطون عليهم فكريا وعقائديا، وبين هؤلاء الذين اختاروا العبودية لأن فيها راحة من عناء التفكير والاختيار.

يواصل كانط: إن الأوصياء والمتسلطين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التوجيه فإنهم سيحرصون على إقناع أغلب الناس بصعوبة خطورة التقدم على طريق النضج، وذلك بعد أن دمغوا حيواناتهم الأليفة بالغباء ومنعوا هذه الحيوانات المطيعة من التجرؤ على القيام بخطوة واحدة خارج الحبال التي ربطوا بها وأخذوا يظهرون للناس الذين سيطروا عليهم حجم الخطر الذي يتهددهم لو أنهم حاولوا السير بمفردهم دون مساعدة منهم، على أن هذا الخطر المزعوم، كما يرى كانط، ليس عظيما كما يدعي هؤلاء، إذ أن الناس سوف يتعلمون في نهاية المطاف المشي بعد عدة سقطات، ولكن هؤلاء المستفيدين من السيطرة على الناس يضربون لهم مثلا واحدا، وهو هؤلاء الذين سقطوا في الطريق وهذا كفيل بأن يرهب البقية ويصدهم عن الشروع في أي محاولة أخرى.
ويرى كانط أن تغيير اتجاه العقول من الاعتماد على الغير إلى الاستقلال الذاتي أمر لا ينفع فيه تحول مفاجئ، كالذي يحدث في الثورات ، وإنما تعين عليه التربية العقلية والنقدية. ومن هنا، يضع كانط شرط " الحرية " بوصفه مطلبا ضروريا لنشأة التنوير واستمراره.

إن التنوير بكل بساطة وبلاغة وعمق يكمن في تحرر الناس من قصورهم وهذا القصور ما هو إلا عجزهم في مجال التفكير واستعمال العقل النقدي، والإنسان هو الذي يضع نفسه في هذا الموقف المهين حينما يقنع نفسه أنه غير قادر بل عاجز عن استخدام عقله وفكره الخاص من دون أن يرشده أحد. وبذلك سلم هذا الإنسان عقله لإنسان آخر أو لمؤسسة تمثل له كل الحقيقة. وهو هنا يطمئن إلى حقائقه المزعومة والتي لم يكن له في الحكم عليها أي فضل، إنه تلقاها هكذا كما أخبره بها هذا الوصي عليه الذي جرده من أعز ما يملك الإنسان، سواء كان هذا الوصي إنسانا أو مؤسسة، هذا الذي به يصبح الإنسان خاضعا لشكل من أشكال العبودية الفكرية.

إن النضج العقلي، كما يرى كانط، مرتبط بمقاربة أية فكرة، مهما كانت، بحس نقدي خالص، وهذا ما طالب به السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي لأنه يريد بهذا إنسانا يستطيع أن يخرج من طور العجز والانبهار إلى طور التعقل والاستنارة والتأثير والإبهار، هذا الإنسان هو فقط القادر على أن يبدع جديدا يخلقه هو بنفسه.
 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط