الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حب الأوطان من الإيمان

د. محمد محمد داود
د. محمد محمد داود

الانتماء انتساب، أنا أنتسب إلى عائلتى فأنا أنتمى إليها، وأنتسب إلى مكان عملى أو مؤسستى فأنا أنتمى إليها.

الانتماء هو انتساب، هو صلة قوية بمكان الإنسان الذى نشأ فيه، أو المؤسسة التى يعمل بها، أو المكان الذى تعلم فيه، ونحو ذلك. هذا مفهوم الانتماء، إنه صلة قوية وارتباط شديد.

أما الوطن فهو من التوطين، مرتبط فى الأساس بالمكان، وأنا معجب بالتعريف الذى وضعه العبقرى المصرى المؤرخ جمال حمدان، حيث حدد  محورين مهمين فى تعريف الوطن: المحور الأول: جغرافى، والثانى: تاريخى.

الجغرافى: يرتبط بالمكان، فموقع الوطن بين الأوطان الأخرى له أهمية بارزة، وحين ننظر إلى مصر من حيث موقعها ومكانها على الكوكب الأرضى على الخريطة نجد أن موقعها متميز، يتوسط العالم ويربط الشرق بالغرب ويربط التجارة ويربط بحار وأنهار إلى آخره. وما من شك أن الموقع الجغرافى للوطن من الأهمية بمكان.

المحور  التاريخى زمنى، ومعناه تاريخ هذا الوطن فى المعارف الإنسانية فى الحضارة الإنسانية، ما قيمته؟ وسوف نأتى إلى تاريخ مصر، يعنى التاريخ المتميز للوطن.

وعلى المستوى الشخصى، ما نصيب كل شخص، كل مواطن، من هذا التاريخ؟

والجواب: نصيبه الأحداث التى عاشها فى هذا الوطن، ذهب فتعلم، وذهب فكانت له متعة فى هذا المكان فى سياحة أو نحو ذلك، ذهب فعمل هنا وكونَّ نفسه وذاته، كانت له صداقات وعلاقات اجتماعية، هنا له تاريخ، ونقصد التاريخ للشخص داخل هذه الجغرافيا، داخل هذا الوطن، فداخل هذا الوطن هناك أناس كونوا ثروات عظيمة، داخل هذا الوطن هناك أناس كونوا معارف علمية، وأصبحو رمزا من رموز العلم على مستوى العالم. 

ومصطلح الوطن حديث، هذا حقيقى، لكنه ورد فى القرآن بالمعنى، ولم يرد باللفظ، لكن المفهوم موجود، كما ورد بألفاظ أخرى، حين يقسم الله (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) فهو يقسم بوطن النبى مكة، إذن البلد وطن أقسم بها الله عز وجل، إذن الوطن موجود بلفظ آخر، نعم المفهوم موجود، حيث عَبَّرَ عن الوطن بالإقامة بالبلد، إلى آخر ذلك.

وفى السنة جاء بالمعنى، فى الحديث الذى رواه أبو داود وهو حديث حسن صحيح، لما جاء رجل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال  يا رسول الله: “أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ قال: لا تعطه مالك، قال أرأيت إن قاتلنى؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو فى النار، قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: فأنت شهيد”.

فكلمة الوطن لها استعمال حديث، لكن معناها موجود فى القرآن بكلمة أخرى وبنفس معنى وطن فى القرآن (كلمة البلد)، وموجود فى السنة بالمعنى حين عبر بكلمة مال، والمال كل ما هو يمتلك وهو مفردات الوطن.

والذين يدعون بقصد أو بغير قصد أن كلمة الوطن غير موجودة فى القرآن والسنة، والوطن ليس مهماً المهم الانتماء الدينى، نقول لهم راجعوا أنفسكم لأنكم  بالشهود العلمى والتحليل العلمى لآيات القرآن والحديث النبوى أنتم مخطئون، ينبغى أن تعودوا إلى الصواب، ينبغى أن تعودوا إلى الحق، وليس بعد قول الله قول، ليس بعد بيان الله بيان.

إذن الوطن ذُكر فى القرآن بلفظ آخر وموجود بالمعنى، وذكر فى السنة بالمعنى حين عبر بالمال والمال هو كل شيء يمتلكه، وهو الوطن فى المجموع العام.

والانتماء للوطن فى العموم معناه الانتساب للوطن، الصلة بالوطن، يعنى العلاقة الوثيقة الجدلية، وجدلية هنا يعنى تأثير وتأثر، حقوق وواجبات، الوطن أعطانى، أعطانى كل الحقوق يعنى أنا تحت سمائه وعلى أرضه نبت ونشأت إلى آخره، وحدث التكوين العلمى، والتكوين الاجتماعى، والتكوين الاقتصادى، وكل مراحل التكوين للإنسان حدثت فى هذا الوطن.

ربنا سبحانه وتعالى لما أحب أن يبين علاقة الإنسان الروحية والشعورية بالوطن ذكر أمرا مدهشا جدا  فى القرآن، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) سورة نوح 17، لم يقل  أنشأكم ولا خلقكم ولا جعلكم وإنما قال: (أَنْبَتَكُمْ)، لقد شبه علاقة الإنسان بالأرض (الوطن) بالنبات، إذا اقتلع من جذوره من تربته ووطنه الذى ينمو فيه مات وانتهى، فكذلك الإنسان علاقته كعلاقة النبات بالأرض، فقال ربنا (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ) ولم يقل: خلقكم ولا أنشأكم ولاجعلكم... إلى آخر ذلك، وفى هذه عبرة ودلالة على قوة العلاقة والتشبث الروحى بالوطن.

كما أن الوطن يعنى هو أنا وأنت وهو وهى ونحن، هو حياتى، هو روحى، هو أنا، ومن هنا شرع القتال وشرع الجهاد من أجل الوطن، من أجل الحفاظ عليه، تزهق الأرواح من أجل الأوطان، لقد ذكر القرآن أن (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ) الحج - 40، كان الإخراج من الوطن سبباً من الأسباب المبيحة للقتال (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا) البقرة - 246.

وكل هذا يؤكد المعنى العميق  لمعنى الوطن، وأن الانتماء للوطن إنما هو حقوق وواجبات، أنا أخذت الحقوق أولا، كل الحقوق، فينبغى ألا أبخل بما علىّ من واجبات، كل إنسان فى موقع مسئوليته وعلى قدر استطاعته، لكن المجموع يكون عظيما، حين ندرك بوعى قيمة الوطن وأننا بالوطن وعظمتنا بالوطن وعلمنا بالوطن وأموالنا بالوطن ولا نساوى شيئا ولا نكون شيئا بدون الوطن؟

وكل إنسان بفطرته يتشبث بالأرض التى ولد عليها ونشأ فيها (الوطن غالٍ)، لكن مصر ليست وطنا ككل الأوطان، لماذا؟  

نعود إلى تعريف المؤرخ العظيم العبقرى المصرى المرحوم جمال حمدان، هو يضع المحوريين لتعريف الوطن، المحور الجغرافى والمحور التاريخى، فإذا نظرنا إلى تاريخ مصر، وأنا من بلد ولدت فى حضن الجبل وأنا أفتح عيني أفتح على الهرم وعلى الآثار وأرى السياح يأتون من كل بلاد الدنيا إلى وطنى.. بلدى.. كانت هناك علامة استفهام؟ لماذا يأتون إلى الجبل؟ هم لا يأتون لمشاهدة هذه الأحجار، هناك سر!! السر هنا عظمة التاريخ، هنا مجد.

تعلمت قيمة مصر والحضارة المصرية القديمة، وأول من فتح عينى على سيدنا إدريس عليه السلام،  ومعروف أن سيدنا إدريس كان فى أواخر عصر سيدنا آدم، يعنى أنبياء الله سيدنا آدم عليه السلام  وسيدنا شيث وسيدنا إدريس.

جاء سيدنا إدريس إلى مصر وعلم الناس الإيمان فى مصر، فى أواخر عصر آدم، يعنى فى بواكير الإنسانية الأولى، جاء الإيمان إلى مصر فى أواخر عهد آدم عليه السلام، جاء الإيمان إلى مصر هذا هو المعنى.

وعلى أرض مصر ربنا يزكيه فى القرآن (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) مريم 56-57.

لقد بدأت الحضارة العلمية فى أرض مصر بواسطة سيدنا إدريس انظر إلى هذا العصر، فالحضارة الإيمانية بدأت مبكراً على يد سيدنا آدم الحضارة العلمية بدأت هنا فى مصر .

ومصر ليست وطناً ككل الأوطان إنما هى العظمة، هى التاريخ بالنسبة للإنسانية، قبل أن تكون هناك عظمة للحضارة العلمية.

وأود أن أشير إلى أن الدين لا يتعارض مع تعظيم الوطن والاتنماء إليه بل يؤكد هذا، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عظَّم مكة، وهو خارج منها، وقال: والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أهلك  أخرجونى منك ما خرجت، يعنى وطنه هوى قلبه صل الله عليه وسلم، نريد أن نعظم الأنا.. الوطن، وهنا بيان قرآنى عظيم فى آيتين، وليس بعد قول الله قول، إن القرآن وهويتكلم عن البلد (ووضحنا أن البلد بمعنى الوطن) جاءت فى القرآن (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) إبراهيم 35.

قدم هنا الوطن على العبادة - نعم - قدم أمن الوطن على العبادة، لماذا؟ لأنه بدون أمن الوطن لا يستطيع الناس العبادة، ورأينا من يستخدم السياسة فى المسائل الدينية وقتلوا كثيرا، فلن نتمكن من العبادة بدون وطن، وأمن الوطن، لذلك قدم الله أمن الأوطان على العبادة، كما قدمها على عصب الحياة الراسخة الرزق،  قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) البقرة - 126.

إذن أمن الوطن مقدم على الرزق، وبدون أمن للوطن لا عمل، لا بيع، لا شراء ويمكن أن يحصل سطو على هذا التاجر وهذا المال، لن يكون هناك مال ولن تكون تجارة ولن يكون اقتصاد ولن يكون رزق. 

القرآن يفهمنا ويعلمنا أهمية أمن الوطن واستقراره، لذلك نريد أن نعظم الوطنية والمواطنة كما علمنا سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).